حاكت لي ذكريات طفولتي في القرية ثوباً ناعماً أرتديه عندما يعريني واقع الأيام المر من لحظات السعادة الخالصة، فيأخذني الحنين إلى الأمس إلى رائحة النرجسِ والقُندولِ، وشاطئ بحيرة طَبَرّيا الأزرق، وحضنِ أمي، وشموخ أبي، وقطرات الدموع وأصوات الباعة المتجولين.
لا رياح ولا مطر، ولا حتى سحباً رمادية. لا ترى في سماء أواخر ديسمبر هذا سوى شمسه المريضة الكاذبة، ولا تشعر سوى بنسماته الجافة الباردة، وإذا كان فصل الشتاء في أوجه ولم يأت الغيث بعد، فلماذا إذن نلوم البعضَ إذا جفت ينابيع أحلامهم من الأمل وهم في قمة الشباب؟ ولماذا نلوم الشتاء إذا نسي أن يمطر هذا العام؟ ونحن نحلم بالمطر الأكبر منذ عقود، ولا يزال زرعنا اليابس في أرضنا المهجورة، فلا نسقيه ولا ترويه قطرات المطر.
بين حيرة السؤال واستحالة الإجابة يعود ذلك المشهد ليتكرر ثانية، ويتكرر معه البطل أيضاً. من روح الماضي القديم يأتي متقمصا جسد إنسان جديد. يمر في أزقة الحارة الضيقة متمايلاً بحمله الثقيل يمنة ويساراً، ينادي بصوت عال فتخرج الكلمات من فراغ الصوت برتابة وملل، ويتفحص الطريق بعينيه المدورتين، فما ان يرى شبح انسان قادم حتى يشرع بترتيل أنشودة قوت الحياة علّها تجذب أحد السامعين من المارّة.
من خلف النافذة أراه مقبلاً نحو المنزل، فأسرع بإخراج ذلك الثوب الملّون من خزانة الماضي البعيد، وأتساءل وأنا أرتديه: "كم من مرة يغترب هذا الرجل دون أن يغيب، ويرحل بعيداً، ويظل منسياً برغم بقائه هنا؟" ربما قد يلوم الوقت أو القدر. فهل شاء القدر أن يحصد وجوده من حقل الزمن، ويلقي ببقايا سنابله اليابسة في موقد المجهول المشتعل ليصبح رماداً يتناثر على أرصفة النسيان؟
لا أحد بامكانه الإجابة على هذا السؤال، فلا أحد يعرف عنه شيئاً، ما اسمه، كم عمره، ماذا يحب، وماذا يكره، فقد كان شيئاً ككل الأشياء المفهومةِ ضمناً. جزء من الحياة اليومية. هو ذلك الرجل، الذي لا يريد أن يعرفُه أحد. لكني اهتممت لأمره منذ أول مرة رأيته فيها يجوب دروب القرية، وقد مضى أكثر من عشرين عاماً على اكتشافي له، ومعرفتي حقيقته، ويوم اختفى، أدركت حينها، لماذا تجف ينابيع الأمل في قلوب الشباب النضرة، وعرفت لماذا لم يأت المطر الأكبر بعد!
"سِجاد، سجاد" هكذا كان "الغَزّاوي" ينادي في ساعات الظهيرة من كل يوم، والغزّاوي هو الإسم الذي أطلقته نساء القرية على البائع المتجول، والذي جاء من قضاء غزّة إلى قرى الجليل باحثاً عن لقمة العيش. لكنه لم يكن بائعاً فقط، إنما كان بائعاً وعتالاً ، يحمل فوق أكتافه السجاد الخشن الثقيل، ويدور فيه حائراً بين أزقة القرية الطويلة، تحت أشعة الشمس الحارقة وأمطار الشتاء القارس، بملابس بالية رثة سترت نحوله الشديد، وحذاء ممزق بلا جوارب.
كنت أنظر إليه ببراءة طفلة لم تتجاوز الثمانية أعوام، فأرى رجلاً يتصبب عرقاً وذلاً. ينادي، فيتجاهله السامعون. يطلب، فيرده الناس خائباً مغلقين أبواب منازلهم في وجهه، فيقف أمام الأبواب الضيقة الموصدة ليرتاح قليلاً من عناء الحر والطريق، وينظر إلى السماء متضرعاً، علّها تفتح له أبوابها الواسعة من الرحمة.
كنت كلما سمعت صوته قادماً من بعيد، أركض إلى النافذة المطلة على الطريق، فأراه متكئاً على أحد الأسوار ليرتاح قليلاً، ومن خلف عتمة الستارة كنت أحدق في تقاسيم وجهه الحزين، وكفوف يديه الملطخة بالعرق والغبار، وأرى كيف كان يحول نظره إلى الطريق ثانية، فيتحرك من مكانه، ويقف بين البيوت العالية وقفة تائه في دائرة الشك، كأنه يستشعر القِبلة التي سوف يحصل منها على مصدر رزقه لذلك اليوم.
لا أعلم ما الذي كان يشدني إلى رؤية ذلك المشهد المتكرر، هل كان صوت البائع المفعم بالألم والرجاء؟ أم رغبتي اليتيمة في أن تحدث معجزة إلهية، أو حتى بشرية، فأرى الناس وهم يجتمعون حوله يتسابقون إلى اقتسام حمله المتعب، ويتهافتون على حمل همه المتراكم، ولكن عقل طفلة ولدت في زمن كانت تعلق فيه الأراجيح على فروع أشجار التوت والتين لم يكن قادراً بعد على استيعاب قسوة الواقع، ومرارة حقيقته.
ذات يوم رأيته وهو يطيل النظر بعينيه نحو زاوية معينة، ومر الوقت بطيئاً قبل أن يخطو كأشباح المساء إلى الأمام بخطوات متثاقلة مترددة نحو ساحة منزلي. وقف تحت نافذة غرفة المعيشة، وما أن تصلبت قدماه في الأرض حتى شرع بالمناداة بصوتِ مجاهدٍ أنهته المعركة، ولكنه لم ينهيها بعد: "سجّاد، سجّاد".
أيقظني الصوت ثانية، فنظرت إلى المسكين وهو يحمل بضاعته ويهم بترك المكان، وما إن استدار ليذهب حتى سمعت صوت أمي يناديه من الداخل:
- "قف! لا تذهب."
وكالشظية المحتضرة التي تتطاير بعجز من مدفأة تكاد نارها تهمد التفت الرجل نحو الصوت، ونظر إلى أمي نظرة مرهقة متوسلة، ثم اقترب إلى مدخل البيت، فقالت له أمي:
- "إجلس لترتاح أولاً، أتريد بعض الماء لتشرب؟"
فأجابها، وهو يلهث أنفاس الحياة الراقدة على فراش الموت:
- "أنا جائع. لم آكل شيئاً منذ أيام."
- "يا حَسِرْتي!"
قالتها أمي متنهدة، ثم نادتني، وطلبت أن أحضر للبائع رغيفين كبيرين من خبز الصاج/ وصحن زيت وزعتر، وإبريق ماء.
رجعت وأنا أحمل الطعام والماء، فملأ الرجل جوفه إلى أن شبع واكتفى، ووضع ما تبقى من الخبز في جيب ثوبه الواسع، وعجبت لكبر جيبه، وسألت نفسي: "لماذا تخاط في ملابس الفقراء جيوباً كبيرة ؟" واليوم فقط عرفت أن هذه الجيوب صنعت لستر فتات الكرامة التي جمعها البسطاء من على موائد الجوع والعطش.
في ذلك الوقت كانت جارتنا أم سليمان تكنُس الشارع، وأم سليمان هذه هي امرأة لا شكل هندسي يعبر عن تفاصيلها، ولا كلمات تصف تكوينها، فخلف قصر قامتها الملفت، ومبنى جسدها المتكوّر الذي يوحي بالبساطة أخفت عقلاً عنيداً وخشونة في التعامل مع الغرباء. نظرت إلينا وألقت تحية الصباح، فنادتها أمي لتلقي نظرة على السجاد. جلستا في الظل، وجعلت الاثنتان تعاين البضاعة بدقة، وكان البائع يفرد السجاد أمامهما، كما يفرد الليل نجومه المتلألئة لتزيح عنه العتمة.
أعجبت أم سليمان بسجادة حمراء متقنة الصنع، متوسطة الحجم، وأشارت إليها، فقال لها البائع:
- "إن ذوقَكِ جميل يا حجة، فقد اخترت أجمل سجادة على الإطلاق!"
- "سوف آخذها."
فَعَلت ابتسامة ظاهرة على شفتيه، وقال:
- "على بركة الله يا حجة."
- "سوف آخذها مقابل نصف تنكة زيت زيتون!"
وفجأة سقطت البسمة من على ثغره، وارتجفت شفتاه التي كانت ترقص الفرحة على حوافها قبل لحظات، ولكنه عاد واستجمع كلماته، ثم قال بشجاعة حذرة:
- "ولكن يا حجة، أنا لا أرغب في المقايضة، فأنا بحاجةٍ إلى النقود. كما أني أحمل السجاد على كتفي منذ أيام وأنا أجول به من قرية إلى أخرى، فلا توجد حارةً لم ندخلها، ولا زُقاقاً لم نطأه. أرجوك يا حجة، أنا رجل فقير، متزوج ولدي أبناء وبنات من عمر هذه البنت". وأشار إلي بيده، وكانت أصابعه ترتجف وهي موجهة إلي، واستطرد قائلاً:
- "كما ترين فأنا منهك من التعب، ولن أقدر أن أعود إلى المنزل قبل أن أبيع هاتين السجادتين. "
فنظرت اليه أم سليمان غير آبهة بشرحه الطويل، وقالت مختصرة الحديث:
- "تستطيع أن تأخذ الزيت وتبيعه، الكثير من الناس يشترون الزيت، فأنت تعلم أن في هذا الوقت يرتفع سعره. أريدك أن تنتفع فلا تكن عنيداً."
- "لست عنيداً يا حجة. أنا جائع والجوع أنهكني، وينتظرني في المنزل كوم لحم. ربما لن أجد أحداً يشتري هذا الزيت، وأنا بحاجة إلى النقود، فأولادي يتعلمون في المدرسة، والمصروف كبير والمال قليل. لولا الحاجة لما كنت أجول أياماً حاملاً هذا الحمل الثقيل، أتحمل مشقة الطريق وتحولات الطقس. يا حجة، أنا لست متسولاً لكي أتوسل للمال، أنا أعمل بجهد لكي أستر عائلتي، فأرجوك لا تخذليني."
فأجابته المرأة بحدة:
- "لا أريد. الله يعوض عليك."
واستدارت لتذهب، فتمتم البائع بصوت خافت، وهو يعيد لف السجادة:
- "واللهِ حرام، سجادة بكذا ليرة مقابل نصف تنكة زيت، والله حرام."
فالتفتت إليه ثانية، وقالت:
- "أنت لا تريد أن تنتفع."
- "والله يا حجة أن هذه السجادة هي أغلى واحدة عندي، وأنا لأجل هذه المرأة الطيبة التي أطعمتني وسقتني"، وأشار بطرف عينه المترقرقة إلى أمي، سوف أبيعك إياها بسعر خاص فقط لوجه الله ولأني لم أبع شيئاً حتى الآن. أرجوك يا حجة، أنا لم أبع شيئاً منذ أيام، وأولادي...
فقاطعته أمي وهي تقول:
- "يا إم سليمان، من الصعب على هذا الرجل أن يحمل السجاد والزيت. أعطه نقوده ودعيه يتيسر."
فرمق البائع أمي بنظرةٍ ملؤها الامتنان، ورأيت في عينيه بريقاً لدمعة إنسان فقد شيئاً ثميناً، ومنعتها الرجولة من أن تذرف على وجهه الحر الكئيب، وأردف قائلاً:
- "الله يبارك فيكِ يا حجة، الله يحفظ لك هذه البنت. أرجوك يا حجة إم سليمان، أجبري بخاطري الله يوفق سليمان ويحفظه."
ويبدو أن أم سليمان قد رق قلبها، فحانت منها نظرة أخرى إلى البائع، وجعلت تتفحص السجاد ثانية، فأمسكت بسجادة أخرى، وقالت له بتأفف:
- "طيب، أرني هذه."
- "حسناً، وقال وهو يقوم بفردها على الأرض: لكني أبيعك مقابل النقود، وليس الزيت."
- "رجل عنيد، لا تريد أن ترتزق."
- "سامحك الله يا حجة."
- "أنا لا أريد أن آخذ شيئاً دون مقابل، أنا..."
فقاطعتها أمي متنهدة:
- "يا إم سليمان دعي الرجل يتيسر، فلا فائدة من المساومة على أمر مرفوض من البدء. النهار أوشك على الانتهاء، دعي الرجل يذهب ربما وجد رزقه في مكان آخر قبل أن يحل الظلام. "
فأجابت أم سليمان، وهي تنظر إلى الرجل باستهزاء وتكبر:
- "هو الخسران. أنت الخسران يا أخي."
وبعد معركة من الجدال، وتجارب الإقناع التي باءت كلها بالفشل، أدرك الرجل بأنه ينفخ في قربة مقطوعة، وبعد أن تجرع الهوان، وعرف بأن مذاقه أمّر من طعم الفقر والحرمان قرر الانسحاب، فشرع برفع بضاعته ببطء ويأس، وهو مطأطئ الرأس، كاتم الدموع، وبصوت يخنقه الحزن قال:
- "إن قلب الله واسع الرحمة يا حجة..."
وهمت أم سليمان بالذهاب، فمشت خطوتين إلى الأمام ثم عادت أدراجها. وقفت أمام البائع، وقالت بشفقة مهينة لا تخلو من الحزم:
- "حسناً، سوف أدفع لك نقوداً ثمناً للسجادة، ولكن بسعر خاص كما وعدتني، فكم تريد؟"
فتنهد البائع، ثم قال على مضض:
- "سعر هذه السجادة لا يقل عن ثلاثين ليرة."
- "هذا هو عرضك الخاص يا أخي؟ ثلاثون ليرة؟ هذا كثير، سوف أدفع لك عشرين ليرة."
فأجابها البائع بصوت خالطته مرارة الألم والشقاء:
- "أرجوك يا حجة، الله يستر على أولادك، لقد دفعت مقابل السجادة أكثر من عشرين ليرة، فهل ترضين بأن أبيعها بخسارة؟"
فأجابت أم سليمان بتهكم:
- "أنتم دائماً تقولون نفس الكلام عندما تشعرون بأن المشتري متواضع وطيب القلب، تطمعون به وتستغلون طيبته، لذا فأنا لن أدفع أكثر من عشرين ليرة."
فتنهد البائع ثانية، وجعل ينظر في وجه أم سليمان الساخر، وكأنه يبحث عن التواضع والطيبة التي تحدثت عنهما. ثم حرك رأسه نافياً كلامها، وقال:
- "يا حجة، أنا أبسط من تفكيرك هذا. أنا لا أقصد استغلالك لا سمح الله، ولا أطمع في شيء سوى رضا ربي، وتأمين الستر لأولادي وعائلتي. أرجوك يا حجة.. استغفر الله العظيم ..حسناً، بثمان وعشرين ليرة."
- "لا. قلت بعشرين وأنا لن أدفع ليرة واحدة زيادة، ماذا قلت؟"
- "يا حجة، أنا لست متسولاً، ولكني أرجوك بأن لا تكسري بخاطري"، وفكر لحظة ثم قال:
حسناً بخمس وعشرين ليرة، هذا هو السعر الذي اشتريتها به، وعوضي على الله.
وانتفضت أمي ساعتها من كرسيها، ثم قالت لأم سليمان بلهجة حازمة مؤنبة:
- "يا إم سليمان! الرجل يعرض عليكِ السجادة بسعر الجملة. خمس ليرات لن تفقرك، ولكنها سوف تساعد هذا المسكين، وتؤمن طعام اليوم وغد لعائلته وأولاده."
ويبدو أن كلام أمي، قد أثمر في بستان أم سليمان، ولكنها لم تمنع نفسها من النظر إلى البائع باحتقارٍ شديد، وبتكاسل وتردد وضعت يدها في صدرها، وأخرجت منه صرة نقود، فتحتها، عدت خمس وعشرين ليرة ، ثم ناولتها للبائع بامتعاض وغضب شديدين. وكادت النقود أن تقع على الأرض لولا خنقتها قبضتها السمينة القوية، وظلت يدها ممتدة نحو البائع للحظات.
حينها حدث شيء غريب أدهشنا جميعاً: تراجع البائع إلى الوراء، ولم يأخذ النقود، إنما وقف بلا حراك ككتلة من الجليد الصامت، وكأنه شعر بأن هذه المرأة تريد مقايضته للمرة الثانية، ولكنها الآن تعطيه المال مقابل الكرامة!
كانت دقائق من الصمت لم ينطق فيها أحد من الحاضرين ببنت شفة. بعد لحظة نظرت إلى البائع، فشاهدتُ على جبينه المتجعد الحزين شريطاً من الذكريات، وشواهداً على المستقبل. رأيت رزماً مبعثرة من المساومات، والمفاوضات، والتنازلات، والمقاومات. رأيت تاريخاً لم ألتقيه سوى في أغاني الحزن والنواح. رأيت عمق فنان، وثورة ربيع الشعوب، وهم بلدنا المنقسم، والذي حمله الناس كما يحمل هو هذه السجادة، ومشوا إلى أن وصلوا به إلى جميع أقطاب العالم ينادون، يفاوضون، ويقاومون، فلم يبقَ شبر تراب لم يدسه جرح وطني، ولا قبة سماء لم تحلق فيها تعاسة وطني. ولكنه ليس للمساومة أو المقايضة، ونحبه، فالحب ليس تجربة، وليس خياراً ننتقيه. الحب يولد من بذور الوعي الصافي، من بطن الطبيعة وروح الخيال. ولا يقاس الحب بل يدرَك بالحس والشعور، وكم نحبه بكل ما يحتوينا من المعاني والأشياء.
لكننا أصبحنا غرباء، عن بعضنا، وعنه. هكذا نتشتت ونفترق قبل أن يغمرنا دفء حضنه، ويحيط بنا أمان روحه. واليوم، وبعد أن اشتد ساعدّي، وأزهرت زنابق وطني فوق تلال نفسي الخضراء، أتذكر كيف رأيت البائع فيه، ورأيته في البائع كالأحداث يتكرر، وكالتاريخ لا يريد التحوّل. بائس ومعدم، ولكنه باسل وصامد.
وتذكرت البائع كيف انفرجت أسارير وجهه فجأة، وكيف مسح عبراته الثمينة بكف يده السمراء، فبدت دموعه وكأنها حبات لؤلؤٍ نفيسة احتفظ بها لأعوام، وسهواً وقعت من جعبته، فالتقطها بسرعة وحذر قبل أن تتبعثر وتضيع منه إلى الأبد. ثم نظر إلى أم سليمان بتواضعِ فقير الحال، وكبرياءِ غني النفسِ، وقال:
- "أنا لا أريد أن أبيعك!"
وحدقنا به أنا ووالدتي كأننا ننظر إلى تمثال ملك عظيم، إلى شيء نراه ولكنه شفاف كالزجاج، نقي كالثلج الأبيض.
أما أم سليمان فدهشت لهذا الرد وصاحت به:
- "أردتَ نقوداً، وأنا سوف أدفع لك النقود مقابل السِّجادة، ولا تغضب سوف أدفع لك ما تريد."
فقال البائع ونشوة النصر تشع من عينيه:
- "حتى لو دفعت لي ضعف الثمن، فأنا لن أبيعك!"
- "يا لك من رجل غريب! رفضت الزيت، والآن ترفض النقود، فماذا تريد؟"
- "إن ما أردته يا إم سليمان لا يقدر بمال أو بثمن، ولكني ممتن لك، فأنا اشعر الآن وكأني بعت كلّ بضاعتي، حتى أني لم أعد أشعر بثقل ولا تعب. دعيني أتيسر، فإن أولادي في انتظاري."
واستدار عنا ثم مشى في طريقه بخفة ورشاقة، وقد تركنا في حيرة ودهشة لم تفارقنا حتى بعد أن رحل عنا، وكالدخان المتصاعد من مواقد المنازل الخاوية، بدأ يتلاشى من أمامنا.
أما أنا، فقد ظللت أحدق فيه وهو يبتعد، فرأيته من بعيد يسير رافعاً رأسه بشموخ وكبرياء. مطبقاً بيد واحدة على شيء ما لم أتمكن من معرفته. باعثاً من يده الثانية وهجاً يتأجج تارة نور، وتارة نار. وهكذا ظل يسير في طريقه إلى أن ابتلعه زُقاق الحارة المزدحم بالمارة، فاختفى.
الصّورة للتّوضيح فقط!