صدرت حديثًا للشّاعر الكبير سميح القاسم آخر إبداعاته النّثريّة والشّعريّة، وهي عبارة عن ثلاثة إصدارات؛ "أناشيد ملكة الحمّام وقصائد أخرى مترجمة من الشّعر العبريّ" والجزأين الأوّلين من مجموعتيه "نُقطة.. سَطر جديد!" و "ليزر (أفكار ورؤى)". صدرت هذه المجموعات بالقطع المتوسّط والطّباعة الأنيقة، عن منشورات "إضاءات" لصاحبها المنتج الفنّيّ، علي عبّاسي. طُبعت في مطبعة الحقيقة- كفر ياسيف وتقوم بتوزيعها مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة.
اعْتبرَ الشّاعر سميح القاسم في إحدى المقابلات، التي أجريت معه حول هذه الإصدارات، بأنّها صرخة ضدّ الاحتلال والعنصريّة والاستكبار الذي يعاني منه أبناء الشّعب الفلسطينيّ خارج الخطّ الأخضر، وما تتعرّض له الجماهير الفلسطينيّة في الدّاخل. وهي عبارة عن استمراريّة الحياة والقلق، ومحاولة خلق توازن بين واقع لا يطاق وحلم مُلحّ: حلم الحرّيّة والكرامة القوميّة، الوطنيّة والإنسانيّة."
الكلمة التي استهلّ بها "القاسم" مجموعته "أناشيد ملكة الحمّام وقصائد أخرى مترجمة من الشّعر العبريّ"، توضّح بأنّ القصائد التي احتوتها المجموعة، إنّما قام بترجمتها عن العبريّة قبل قرابة خمسة عقود، لا سيّما في أعقاب عدوان الخامس من حزيران 1967، وبطبيعة الحال فقد وقع اختياره أساسًا على قصائد الاحتجاج المناهضة للاحتلال والعدوان والعنصريّة، التي كتبها شعراء ومسرحيّون تقدّميّون جمعته بهم المهرجانات والتّظاهرات والفعاليّات الأمميّة آنذاك، مثل يهودا عميحاي وحانوخ ليفين وموشيه برزلاي وآخرين.
الشّاعر سميح القاسم في ترجمته لقصائد هذه المجموعة، (أناشيد ملكة الحمّام وقصائد أخرى مترجمة من الشّعر العبريّ)، استطاع أن يحافظ على جمال وروح الأبعاد الفنيّة التي تنبض بها نصوصها الشّعريّة بمضامينها الاحتجاجيّةّ الإنسانيّة، بلغتها الأمّ. وتوثيقها كما يقول هو نفسه في توضيحه للمجموعة، "على قدر من الأهمّيّة حاضرًا ومستقبلاً" خاصّة لأنّ إقدامه على التّرجمة "لم يكن مجرّد عمل ثقافيّ أو أكاديميّ، بل كان رغبة سياسيّة وإنسانيّة أيضًا، في سبر أغوار المجتمع الإسرائيليّ الذي نواجهه على الأصعدة كافّة، وقناعة بأن مواجهة المعلوم المعروف أقوى وأجدى من مواجهة الغامض المجهول."
من أجواء المجموعة نختار قطعة للشّاعر دان عومر بعنوان: إلى اللقاء (ص.58)
"وداعًا قالت الحرب يوم انتهت/ إلى اللّقاء في الحرب القادمة"/ قالت البنادق المطليّة بالشّحم/ والدّبّابات التي وُضعت في الصّناديق/ "سلامًا قال الجنود حين انتهت الحرب/ وعادوا وهم يعرجون../ أمّا الصحراء، والهياكل الحديديّة المحروقة والضّحايا/ فقد ظلّت صامتة!"
حين ننظر إلى "نُقطة.. سَطر جديد! الجزء الأوّل"، نجد أنفسنا أمام مقالات يعالج فيها شاعرنا سميح القاسم العديد من المضامين الأدبيّة، الاجتماعيّة والسّياسيّة. تميّزت جميعها بأسلوبه الرّشيق الذي عرفاه به من خلال المقالات التي كان يكتبها في مجلّة "الجديد" وجريدة "الإتّحاد" وغيرها، وقد أحسن القاسم حين لم يُشِر إلى تاريخ كتابته أو نشره لهذه المقلات، فأنت بمجرّد قراءتك لها، تستطيع أن تحدّد الفترة الزّمنيّة التي كُتِبت فيها مثل: "أكتوبر" و "هل يعود إلى عكّا؟" و " أنت تغيب مرّة، لتحضُر مرارًا يا حيدر عبد الشّافي...". كما وَضَعَ هذا الكتاب بين يديّ القارئ، مجموعة من المقالات، تناول فيها أصحابها الشّعراء والنّقاد أمثال: "إيليّا الحاوي، فاروق شوشة، الدّكتور عبد الرحمن الياغي، إنعام الجندي، سالم جبران" وآخرين تقييماتهم لنصوص "القاسم" الشّعريّة، حيث أجمعوا بأنها تتفجّر بثورة الصّدق الفنيّ والغليان.
أمّا "ليزر، الجزء الأوّل" وهي المجموعة الثّالثة من الإصدارات موضوع حديثنا، يواصل فيها "القاسم" إبداعه الشّعريّ الذي بدأه في العام 1958 حين أصدر ديوانه الأوّل "مواكب الشمس"، حتّى "هيرمافروديتوس" الصّادر في 2012، محقّقًا عبر هذه الرّحلة الطّويلة مع الشّعر الخطّ التّصاعديّ الذي لمسه العديد من النّقاد والدّارسين. لكنّه في هذه "الليزاريّات" التي تبدأ وتنتهي مقاطعها بسرعة متناهيّة، يشحنك بطاقة شعريّة، فيها من السّحر والصّدمة "الليزريّة" ما تصيبك بدهشة تجعلك تعود إلى قراءتها مرّة ثانية وثالثة .. فأسمعه يقول:
كم أتمنّى أن أكون على قيد الحياة
يوم تنتصر إرادة شعبي في الحياة
لأعلّم العالم كلّه
كيف يكون الفرح!! (ص.3)
****
إن لم تكن لديك كلمة حقّ
في سبيل الحقّ، فلا تذهب إلى
كلمة حقّ في سبيل الباطل!! (ص.5)
****
إذا امتدح قصيدتي سياسيّ ساقط،
فسأبحث عن عيوبي الشّعريّة، لأتطر منها!! (ص.7)
****
إذا أتيحت لي جنازة محترمة
فكم أتمنّى أن تحمل نعشي.. أكفّ نظيفة!! (ص.7)
****
أحلام اليقظة ضرب من الجنون ..
لكن بدونها ..
يُصاب البشر بالجنون المطلق!! (ص.49)
****
إذا شئت أن تكون،
فكن ما تشاء
لا ما يشاؤهُ لك الآخرون! (ص.45)
تحمل المجموعات من النّضوج الفكريّ والفنيّ، ما يجعلنا نجزم بأنّ الجزء الثّاني من "نقطة.. سطر جديد" و "ليزر (أفكار ورؤى)" لهما القدرة، عند نشرهما، على مواصلة التّصعيد الفنيّ الذي طالما وظّفه "القاسم" في خدمة قضيّة شعبه الطّامح إلى السّلام والتّحرّر والحرّيّة.