إن حاجة المرء للبوح والحديث شيء يستحق التأمل، بل إن بعض الحكماء قالوا: " إن هنالك فئة من المجتمع لديها الكلام شهوة من الشهوات التي يسعى المرء الى إشباعها"، فكل إنسان يحب ان يتحدث خلال الاجتماعات واللقاءات والمناسبات، ولكنه يكره ان قاطعه احد أو يوقفه.
هنالك عبارة نرددها دائماً في مجالسنا نقول: أن المستمع الجيد متحدث جيد.. كثير ما سمعنا هذه العبارة، ومن طبقها منا سيحصد حجم الصواب الذي وافقها.. وبدون شك فان الإنسان المنصت يستطيع من خلال تقاسيم محياه وهز رأسه وحركة عينيه أن يعبر عن فهم ووعي وادراك لما يقال.
جالست هذا الأسبوع مع أحد الأصدقاء، وهو طبيب شكا من ضيق وقلق ينتابه، تحدثنا طويلاً واستمعت ما يجول في خاطره وتحدث بإسهاب وأخرج ما بقلبه وكأن علته قد تبخرت مع حروف كلماته، وبعد نهاية الجلسة هدأ واستراح.
هنالك فئة كثيرة من البشر فقط تريد أحيانا أن تعبر وان تتحدث، ومنهم يذهبون الى الطبيب ليستمع إليهم لا ليصف لهم الدواء، ونحن ايضا علينا أن نتعلم فن الإصغاء.
يقول الشاعر صفي الدين الحلي:
اسمَعْ مُخاطَبَةَ الجَليسِ، ولا تكن عجلاً بنطقكَ قبلما تتفهمُ
لم تُعطَ مع أُذُنَيكَ نُطقاً واحِداً، إلاَّ لتَسمَعَ ضِعفَ ما تَتَكَلّمُ
عزيزي القارئ هل تظن أن هنالك شيئاً قد يسعد الآخر أكثر من إصغائك له؟
إن كنت تظن ذلك حقاً، فجرب أن تقاطع الناس، لا تدعهم يقولون شيئاً، فالنتيجة ما سيقولون سخيف لأنك رسمت في مخيلتك ان كلاهم لتصديع الرأس ليس أكثر، ولكن عدم إصغائك لهم سيكون أصعب عليك فلن تجد أحداً يسمعك.
الأبحاث العلمية أظهرت أن الأشخاص المميزون يمتازون بنتائج مثيرة، فهم يستمعون ضعف ما يتكلمون غالباً، وهم يستخدمون عدداً من الأساليب أو الخطط مثل التلخيص في نهاية الاجتماعات واتخاذ القرارات.
قد يعارضني البعض ويقول العكس إن بعض القول فن.. إذاً لماذا لا نجعل من الإصغاء فناً ايضاً.
خلال اللقاءات والاجتماعات في عملنا كثيرا منا ينصت الى الطرف الآخر، ولكنه في حقيقة الأمر يكون مشغولاً بما سيرد به، أو منشغل بالفيسبوك فأذنه مع المتحدث وعقله وقلبه في واد آخر فهو يستمع لكنه لا يصغي، وهنا اذكر محاضرا في الكلية عندما قال لنا أن هنالك فرق بين الاستماع والإصغاء.. ولا بد من التوضيح فالاستماع يتعلق بوظيفة الأذن في تلقي المعلومات من خلال طبقات الصوت، بينما الإصغاء يتعلق بمدى انتباه الفرد الى المعاني المتضمنة لما يقوله المرسل.
ومن خلال الآية الكريمة المشهورة يتأكد ان هناك فرق بين الاستماع والانصات وهي قوله تعالى : { واذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون } ولو كان الاستماع كالانصات لما جاء ذكرهما معا في نفس الآية!!
فتأكد عزيز القارئ أن الإصغاء فن يجب ان يتعلمه من يرغب في تواصل جيد مع الناس، فهذه مهارة يتم اكتسابها وتعلمها وتحسينها خلال الممارسات العملية بين الناس، فأهمية النظر بعيون محدثك من أهم مقومات بناء الثقة.. وقد قال احدهم : " هناك أشخاص بهت لونهم في عيني، وأشخاص أزدت بريقاً بهم، وأشخاص لم اعد أبصرهم مطلقاً.. فالمواقف والإصغاء هي من تصنع العلاقات".
أحياناً، بالرغم من تفاهة كلام خصمك أو محدثك، إلا أنك تضطر الى الاستماع إليه وعدم مقاطعته، واكبر نموذج ما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم وهو خضم الدعوة لإخراج الناس من الظلمات الى النور، فقد ترك عتبة بن ربيعة يتحدث إليه عن المال والنساء والمنصب، بالرغم من كونه كلام تافه لا طائل من ورائه، فلم يقاطعه النبي صلى الله عليه وسلم، بل استمع اليه حتى أنهى عتبة كلامه.
وفي حياة الإنسان العادي تمر عليه فترات يكون محزوناً ومهموماً، او غاضباً، وقلقاً في بعض الأحيان.. فأمامه خياران: أما ان يكبت همه وغضبه فتكون النتيجة الضيق والألم، اما الخيار الثاني ان ينفّس الإنسان عما في نفسه.. وهذا يحتاج الى مهارة الإصغاء لأن التنفيس غالباً ما يكون دليل على المحبة والثقة، إذ لا ينفّس الإنسان إلا لمن أحبه ووثق به.
وأخيرا عزيزي القارئ قبل أن تنطق.. تذكر ان عليك ان تصغي ولا تقاطع احداً، تماما كما تكره انت ان يقاطعك احد.