الأعزّاء - طابت أيّامُكم!
يسرّني أن أرفق نصّ المداخلة التي قدّمتُها في الندوة
التي كانت ضمن فعّاليّات معرض الفنون الدوليّ في بلدتي
العامرة كفر قرع!
ملاحظات تمهيديّة:
1. الفنون كلّها عبارة عن إنتاج إبداعيّ للإنسان يعبّر بواسطتها عن أفكاره ومشاعره وأحاسيسه، وقد يقوم بعمليّة محاكاة لما هو موجود في الطبيعة أو الواقع، أو يحلّق بخياله ليبتكر عملًا فنيًّا – في مجاله - يُحدث الدهشة والانبهار وربّما "الصدمة" لدى المتلقّي!
2. هناك قواسم مشتركة في الفنون على اختلاف أنواعها، من أهمّها: أنّ جميعها تُخاطب الشعور/الإحساس الإنسانيّ، وتُسهم في بناء الشخصيّة المتكاملة وتطوّرها القيميّ الجماليّ!
3. هناك وشائج قويّة بين أكثر من فنّ؛ فقد قيل عن الشعر بأنّه "رسمٌ بالكلمات"، وقيل عن الرسم بأنّه "شعرٌ صامت"، كما توجد علاقة متينة بين الموسيقى والشعر والرقص...
4. الفن الراقي إنسانيّ يتجاوز حدود اللغة والعرق/الجنس والمكان والزمان، والعمل الفنّي الناجح ملكٌ للبشريّة جمعاء!
5. النزعة الإنسانيّة العامّة للفنّ (أو للعمل الفنّيّ) لا تُلغي خصوصيَّتَه وانطلاقَه من بيئة واقعيّة محلّيّة أو ثقافيّة محدّدة؛ وأكبر دليل على ذلك الروايات العالميّة الخالدة المُغرقة في "محلّيتها" والتي نجحت في مخاطبة الإنسان في كلّ مكان لأنّها تروي هموم وآلام وآمال الإنسان العامّة!(وهذا الحكم ينطبق على الموسيقى والرسم والنحت والتمثيل وو...)
عندما نتحدّث عن الفنّ، يجدر بنا أن نتذكّر أنّ هناك طرفين أساسيّين يرتبطان بالموضوع: الفنان المُبدع من جهة، والمتلقّي "المستهلك" من جهةٍ ثانية.
ولا شكّ أنّ وظيفةَ الفنّ ودوره ورسالته لدى المُبدع تختلف عنها لدى المتلقّي!
وبما أنّني أتعامل مع فنّ الأدب، فاسمحوا لي أن أشير إلى:
دور الإبداع الأدبيّ بالنسبة للأديب:
الإبداع الأدبيّ يفجّر الطاقات الكامنة (لدى الأديب)، ويشحذ المواهب، وينمّي القدرات، ويُطلق العنان للخيال ليحلّق بعيدا عن ضوضاء الواقع المشحون بالقلق والتوتر!
الإبداع الأدبيّ يُشبع العديد من الحاجات النفسية التي تصطخب في أعماق المُبدع؛
إنه يمنح الثقة بالنفس، والرضا عن الذات!
الإبداع يطهّر من الكثير من المشاعر والأحاسيس المكبوتة المترسبة في النفوس!
الإبداع عمليّة تساعد على التواصل مع الذات ومع الآخرين!
الإبداع يحمي الفرد من فقدان التميّز والخصوصيّة!
الإبداع يمنح الحياة والوجود نكهة لذيذة!
الإبداع يحقّق التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والحضارات والثقافات!
والإبداع يُسهم في تغيير الواقع للأفضل والأجمل!
"ليس الفنُّ مجردَ لغةِ تعبيرٍ، بل هو ايضًا أداة تحرير أو تغيير".
طبعًا، يمكن التطرّق إلى نقاط أخرى تُظهر دور الإبداع الأدبيّ وتأثيره على الأدباء!
ولو تمعّنا فيما ورد عن دور الإبداع الأدبيّ على الأديب، فإنّنا نستطيع القول إنّ ذلك ينطبق، وإلى حدٍّ بعيدٍ على المبدعين في مجالات الفنّ الأخرى كالرسم والموسيقى والنحت والتمثيل وغيرها!
أمّا وظيفة الفنّ لدى المتلٌقّين:
"إذا أردت معرفة مدى عظمة مجتمعٍ فانظر إلى فنّه!".
للفن على اختلاف أنواعه أكثر من وظيفة: ففيه المتعة والتسلية، وفيه العبرة والموعظة والقيم المستقاة، وقد يجد فيه المتلقّون وسيلة ناجعة للتطهير والتنفيس عن المشاعر المكبوتة، والتخفيف من وطأتها الخانقة.
المتعة والتسلية نحتاجها لنخفّف عنّا أعباء الحياة، ولنجدّد نشاطنا وحيويّتنا لمواصلة أعمالنا، ولمواجهة الصعاب، ولتحقيق التوازن بين عالم المادّة ومتطلبات الروح!.
أمّا تذويت القيم التي نستشفّها من الفن فهي متنوّعة: التعاطف مع الآخرين، التسامح واحترام المختلف، تذوّق الجمال، اكتساب القدرة على الحكم والنقد والتقييم، الانتماء الوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ، والانفتاح على العالم الرحب...
ثمّ التطهير والتحرّر من المشاعر السلبيّة..
وبما أنّ الأعمال الفنيّة للمبدعين– في المجالات المختلفة – تعبّر عن: أفكار وأحاسيس ومشاعر أو تجسّد صورًا وأوضاعًا مستمدّة من الواقع، أو مستوحاة من عالم الخيال والأحلام، فإنّ ردود فعل المتلقّين لتلك الأعمال تختلف بحسب طبيعة تلك الأعمال، وثقافة المتلقّين الفنيّة وذائقتهم الفنيّة.
دور الفنّ بالنسبة للفرد أنّه يُسهم في تحقيق شخصيّته المتكاملة في أبعادها المختلفة: العقل والتفكير، الروح والقلب والإحساس، الإرادة والإبداع!
رسالة الفنّ، على أنواعه، إرساء "مدينة فاضلة" قوامها المبادئ والقيم النبيلة العليا والأفكار السامية!
والفنّ، كما يرى سقراط، "يجب أن يكون لخدمة الأخلاق والجمال، ويجب أن يؤدّي إلى الخير لا إلى اللذّة الحسّيّة".
وأجمل فأقول: الفنون الجميلة تسهم في جعل حياتنا أجمل وأنضر!
ولكنّنا في مجتمعنا لا نولي الفنون - غير الأدب - ما تستحقّ من العناية والاهتمام.
وهذا لا يعني أن يُصبح الجميع مبدعين في الفنون، بل نصبو أن ينكشف المواطنون على ما تجود به مواهبُ المبدعين من أعمالٍ فنيّة في مجالات الرسم والموسيقى والغناء والمسرح والنحت والأدب والسينما وو....ونطمح أن يتذوّقوا الجمال في الفنّ!
نريد لمجتمعنا أن يحقّق التوازن، فلا تطغى الجوانب المادّيّة على الروحيّة، ولا نتفوّق في مجال العلم والتكنولوجيا ونتخلّف في الفنون!
فأنا أحلم بمدينة فاضلة قارئة متذوّقة للفنون، وكم تروق لي كلمات الشاعر الراحل، شاعرَ الحبّ والوطن، شاعر الانتماء نزار قبّاني في حلمه الطوباويّ الجميل، حيث يقول:
" أريد أن يكون الفنُّ ملكًا لكلِّ الناس كالهواء، وكالماء، وكغناء العصافير يجب أن لا يُحرم منها أحد."
ويستطرد نزار مفصّلا ومخصّصًا للشعر المكانة المرموقة الجديرة به فيقول:
" إنني أحلم (بالمدينة الشاعرة) لتكون إلى جانب مدينة الفارابي (الفاضلة)"
أمّا الغاية التي يسعى نزار لإدراكها فهي كما يقول:
" أن أجعل الشعر يقومُ في كلّ منزل إلى جانب الخبز والماء.."
وما أجمل هذا الحلم: أن يُصبح الفنّ عندنا حاجة أساسيّة لا يُستغنى عنها كالخبز والماء والهواء...