من مقالاتي في اللغة :
كان لي نقاش وكثيرًا ما يتردد مثله أو أحدّ منه حول أسباب ضعف اللغة العربية في مدارسنا، وفي مؤسساتنا التعليمية.
قلت لعل أهم سبب يكمن في أن الطلاب الممتازين في الثانويات يتوجهون إلى الطب والهندسة والعلوم والمحاماة، لذا ترى كثيرًا من معلمي العربية كانوا متوسطين في تحصيلهم، إن لم يكونوا ضعفاء – وهؤلاء هم الذين يعلمون اللغة، وهم قناة التوصيل لها، وأحيانًا بدون تذوق لها ولجماليتها، والذنب – كما أرى - ليس ذنبهم فقط، فمن الضروري إلزامهم بدورات سنوية فيها إثراء، ومتابعة وتعمق، وامتحانات، ومن الضروري متابعتهم وأن يكون هناك تفتيش هدفه خدمة المعلم أولاً وقبلاً.
ولكن، ما معنى أن تعرف العربية؟
الجواب الأول والأساس يظل نسبيًا، ولكني مع ذلك أدعوكم لقراءة جزء من مقالتي التي تعالج الموضوع بتوسع:
" لغتنا عنوان وجودنا ومرآة وجداننا"، ضمن كتاب : مركز الدراسات المعاصرة. اللغة العربية في الداخل الفلسطيني بين التمكين والارتقاء. أم الفحم ، 2009، ص 47-51.
ما معنى أن تعرف العربية:
أن يعرف الدارس العربية - أعني به ما يلي:
* أن يتدبر آي الذكر الحكيم، في معانيه وفي ألفاظه، في أساليبه، وفي تفسيره، فلا سبيل للدارس إلا أن ينهل من حوض العربية الذي حفظها، ولا يغفل عن قوله تعالى {إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون} وفي آية أخرى ( جعلناه )، فهو { كتاب فصلت آياته قرآنًا عربيًا لقوم يعلمون. فحفظ القرآن يؤدي بصاحبه إلى استيعاب اللغة وتشرب جزالتها وفصاحتها.
* أن يعرف الدارس قواعد اللغة نحوًا وصرفًا، وإملاء، وصوتياتٍ، وبلاغةً- من بيان وبديع وعلم المعاني، ويعرف مواطن اللحن، وليس اللحن قاصرًا على نهاية الكلمة، بل هو في شكل اللفظة بدءًا من حرفها الأول.
* أن يكون مصاحبًا للشعر العربي، وخاصة التليد منه، فيكون ملتقطًا لدرره، عاشقًا لغرره، مدركًا شواهده وشوارده، ونوادره وموارده، فهو عقّار طب المهج، وهو ديوان العرب، وهو موضع اعتزاز يعتز به من يحفظه، ويستشهد به في الحدث والحديث.
* أن يعمد الدارس إلى فقه العربية، ويتابع تطور اللغة في دلالاتها، وأن يكون على بينة بطواعيتها وبمدى قابلية اشتقاقاتها، ويعرف أن هذه اللغة فيها الكنوز والرموز، وأنها عروس تمتثل لصاحب الصولة فيها.
كما عليه أن يعرف المناهج الحديثة في النظر إلى اللغة، وإلى الطاقة الكامنة فيها، وموازنة ذلك مع ما يجري في اللغات العالمية الأخرى.
إن لغة القرآن تدعونا إلى أن ندرس طرق التجديد في اللغة – في القياس والنحت والتوليد والاختصار والاقتراض......
* أن يتابع المعاجم على اختلاف مناهجها، فلا يصح ألا يعرف الدارس كيف يجد مادة في العين للخليل، أو أن يعرف ما ميزة مقاييس اللغة، أو يتصفح تاج العروس ولسان العرب وغيرها، وهذه المصادر موسوعة شاملة، وليست لغوية فقط.
* أن يتبحر الدارس في مأثور العرب من الأمثال، والحكم، في الخطب والوصايا، في الرسائل والمقامات، وهذه من شأنها أن تصقل الألسنة، وتغذي الفكر، وتشيع جوًا من الأصالة والتراث، حتى ولو وُظفّت بأداء مستجد، له فعاليتة المستحدثة.
* أن يقرأ الدارس صفحات تاريخ الأدب العربي، ويواكب التطور في الشكل والمضمون، ويعرف الشعراء على اختلاف عصورهم، وتياراتهم الأدبية، وموضوعاتهم، وألوانهم الأدبية.
* أن يحسن الدارس عروض الشعر، فيعرف مواطن الخلل في القصيدة، وكم بالحري أن يتابع التطور الحديث الذي جرى على الشعر مثلاً في الموشح، وفي شعر التفعيلة، وسائر الأنماط الشعرية، فكما أن لكل طرح أو مسألة قواعدَ يُعمل بها، فإن للشعر قواعده التي لا يجوز أن يجهلها الدارس.
* أن يعرف الدارس علوم العرب من نقد وفلسفة، وسيرة وحديث شريف،وأن يعرف الأدب ومصطلحاته الأدبية ما قدم منها وما حدث، وبذلك تقوى الملكة الأدبية لديه، ويتعزز بما قد ينحو إليه.
* وأخيرًا أن تكون لديه ملكة التعبير، فهي جُماع ما سبق، ولا تتأتى إلا لمن سبر غورها، ودفع مهرها وقتًا وجهدا.
فإذا صال الدارس فيما ذكرت وجال، فإنه سيكون ابن بجدتها، وفارسها في غمرتها.
أما الشائع اليوم فهو أن نجد متخصصًا في هذا الميدان أو ذاك، يقتصر على المشوار الواحد ليجري فيه جواده. وقد يكون هذا التخصص ضروريًا مجديًا ومجزيًا، إلا أن المرور المتأني الملتقط لثمرات ترفده لا بد منه في كل باب.