في خضَمِّ صيف حارّ لهّاب، وفي ثاني أسابيع شهر آب، بينما كنت منهمكا في مطالعة كتاب، شدّتني أذناي الى صوت أتى من بعيد، يهمّ نحونا باسراع شديد، كأنه يعمّ بخطابه اهل القرية جمعاء، ويبثّ دعوة لحضور مناسبة غرّاء.
لم ينفك الصوت مبتعدا حتى واكبتني امي وهي تقول: ((سيتزوّج جارك في حارتنا القديمة! متى سنفرح فيك؟ ونرى احفادنا بنيك؟ متى نزيّن لياليك؟!)). لم ألبث افكّر فيما قالت حتى نبهَّتني الّا انسى هذا الحدث اللازم، يوم الجمعة القادم.
ومن وحدة البيت وافلاسها والانفرادية وأياسها وتقوقع النفس ويباسها، الى حارتنا القديمة، الى مسقط رأسي، الى بيتنا المتوّج بالقرميد العتيق الاحمر، حيث التفاف أشجار الصنوبر التي يكاد من اوتار بلابلها اللحن ان يتفجّر..
وصلنا الى الميدان! هناك، حيث الولائم والعزائم، والترتيب والترحيب والدعوات وموجات الفرح الهائجة من اعماق قلوب صادقة داعية باليمن والبركات، متّجهة بنوايا سليمة، كأنّ الزواج غاية طال انتظار بلوغها، او كأنّ ما يحدث هو بغية كل ذوي العرسان، في اشهار العرس والشّعور ملؤه ترقرق الألحان..
وبعد تلك الدفعة الهائلة من السلام والكلام، ومن باب "النّخوة" التلقائيّة، تكاتفت الأيدي في تجهيز كافّة "الواجبات" على الموائد والطّرقات، واتمام نصب "الشّوادر" المعلّقة بين الارض والسّماء، لتضفي على أجواء العرس اثيرًا صافيا ينقّي خيوط الشمس الذّهبية الصفراء، وننعم ببيئة فضيّة نقيّة ملساء، فيتسنّى للضيوف الأعزّاء ان يشاركونا الفرح على أتمّ وجه واحسن استواء..
لقد حان موعد جلب العروس، واصطفّت السيّارات متهيّئة للمسير، الى احضار العروس من بيت اهلها، وفق العادات الخالدة والمراسيم الراسخة الصامدة.. لم أعد أذكر مع من ذهبت، لكنني أذكر تماما كيف وقف والد العريس وتوجّه بالطلب من اقربائه وانسبائه بالتفضّل باداء المرسوم، بعد ان وجّه التحيّة على العموم. وسرعان ما لبّى الدعوة شيخ جليل، لم اعرف اسمه وما رايته الا القليل، وبعد ان سلسل عائلة اهلها، وطلب المباركة في نقلها من بيتها الى بيتها، خرجت بتلك العباءة "الرماديّة" التي تغطّي بياضا ناصعا، واساريرها متربّعة خلف "طرحة" حريرا لامعا، يبرق منه وميض دمع يختلج مقلتيها، ينبع من حزن احمر ويصب في قناة الفرح الاكبر، يجرّها اخواها الاكبر والاصغر، وتنتظرها سيّارة محلّاة بالألوان وبريق الجوهر، مزيّنة بوشاح يطغى عليه اللون الأخضر..
ومن وداع "النّسائب" الجدد وتشكر العطايا، الى استقبال الكنة الجديدة، في فرح اديب حدّه "زغروتة" فريدة، ورمزه طبع خميرتين فوق المدخل بعد اماطة الطرحة وفق النَّهجِ الأكمل..
وحال التجمّع والوصول، تشرّف والد العريس مع ذويه وأهليه، بالدّعوة لتناول الطعام، من لسان سخيّ كريم مقدام، يسيطر على حروفه حب مجابرة ضيوفه، وينهل من افواههم دعاء "يُمَوسِقُ" صفاء نيّاتهم..
ومن "هَمَكةِ" التحضير والترتيب والاستقبال والترحيب، وافواج الضيوف المنتهية والمتجدّدة، جاء دورنا في تناول الوليمة المفعمة بالسخاء، على مائدة كريمة ملؤها الراحة والهناء، تطيب لصداها الأذن والجوارح، هادئة البال، لا تنتابها حشرجة الليالي المقلقة، ولا تعكر صفوها ضوضاء "الميكروفون" المنبعثة من افواه "المُطرِبين" المدلّعين، الذين يسلبون كل بهجة الفرح المثالي، بأنغام ضاقت بسمعها الليالي!
ما أجملها من وليمة من رائحة الفردوس، هادئة صامتة، كأنّها تحلل في صمتها ألغاز الكون.. ليست كالموائد الخضراء التي حُفّت في قاعها وجوهٌ صفراء، وعيون تلتهب وقلوب تضطرب، وكفوف أيادٍ منقبضة اغلقتها أحقاد البخل المنتفضة.. ليست كالولائم التي لوّثتها كاسات الخمور والمسكرات، فأفسدت مزاج الأدمغة وهزمت العبارات.. ترميك عنها عليلا ذليلا بعد ان أجلستك اليها سليما جليلا، وتحوطها مراقص تفسد الأخلاق وتقطع الأعناق بقطع مناهل الأرزاق..
ما أجمله من فرح هادئ، زكّى ما في القلوب من مرافئ ليجسّدها لسُفُنِه موانئ.. عدّلت تفاعل الجوارح بالبرّ، أعاده الله تعالى على "العائزين" باليُمن والخير.