الاستفزاز في " السِّر الدَّفين " ؟!!

بقلم : د . باسم أسدي,
تاريخ النشر 20/11/2011 - 11:38:00 am

بداية أعترف بان رواية "السر الدفين " للكاتب هادي زاهر من أكثر الروايات التي شدتني، لقد جذبتني، هذه الرواية إلى أعماقها فصهرتني مع أحداثها؟!! لأكون أحد أبطالها الثائرين؟! لأعيش ماضي أهلنا بما يحويه من إشكاليات مأساوية ومركبة، أدت إلى تمخض ما يحمله واقعنا الحالي حيث أنها تتحدث عن واقع الباقين في وطنهم من عرب ال48 لقد استطاع الكاتب أن يصور الواقع الدقيق أيما تصوير، استطاع أن يحبس أنفاسي ويسرق مني الوقت؟!!.
لقد قفزت إلى ذهني رواية الكاتب البرازيلي " كويلي" غير أن بطلة الرواية هناك "فيرونيكا " حاولت الانتحار لأنها كانت تعيش برفاهية كبيرة إلى أن ملّت الحياة خلافًا ل "جميلة" بطلة رواية "السر الدفين" التي حاولت الانتحار بسبب المآسي التي حلت بها، وأعتقد أن نمط هذه الرواية يشبه إلى حد كبير نمط روايات الكاتب المصري الكبير محمد عبد الحليم عبدلله الذي لا يرحم القارئ الذي يتوقع النهايات السعيدة .
لعل ما يميز رواية "السر الدفين" عن الكثير من الروايات الناجحة هو أن عنصر التشويق يأتي مع بدايتها مباشرة،وهو يأتي مستفزًا ببطء؟!! مما يجعل القارئ متلهفاً لمعرفة ما هو قادم، خلافاً للكثير من الروايات التي يأتي فيها عنصر التشويق لاحقاً حيث تبدأ عملية التهيئة الذهنية للقارئ من خلال السرد الطويل كي يتسنى استيعاب الأساس الذي ستبنى عليه الأحداث لتحتل هذه العملية مساحة كبيرة . لقد ذكرتني جماليتها برواية "احدب نتردام" لفكتور هيجو".
والملفت للنظر أيضاً هو إن الكاتب يطرح من خلال روايته أفكارًا مناقضة كلياً لموقفه السياسي المعروف لنا من خلال كتاباته الصحفية، وهذه نقطة مهمة جدًا تمنح عملية الإبداع وما تتطلبه من فكر وخيال أفاقًا واسعة .
وقد كان الكاتب جريئًا جدًا حيث يغوص في ثنايا الواقع الخفية ليخرج حقيقة يرفض القارئ العربي المتزمت أن يستوعبها وهي علاقة امرأة العربية الفلسطينية مع اليهودي متجاهلًا بأن النفس البشرية واحدة حتى لو ظهرت في أقصى تطرفها فكل منا يستطيع أن يكون نقيض نفسه؟!! .
نقطة أخرى تسجل للكاتب وهي قدرته الكبيرة على استحضار المناظر التي كانت سائدة ووصفها بدقة تجعلك تشاهدها بعين خيالك كحقيقة ماثلة أمامك
وعودة إلى عنصر التشويق، فماذا يريد هذا الرجل المتخفي في الحرش المطل على كروم الزيتون والمتنكر بالملابس العربية التقليدية؟!
تستمر عملية المراقبة عدة أيام لنعرف من خلال الحبكة أنه يريد الاستفراد "بجميلة" ولكن "الجوالة" تعمل بشكل متناغم حيث يصعب أن تبتعد عن بعضها البعض، فنعرف لاحقاً أن جهاز المخابرات وبعد أن عجز عن إيقاع ب " عدنان " زوج جميلة الذي يجتمع في بيته الثوار، قرر وبشكل استثنائي أن يحاول تجنيد زوجته، فقد أوكل المهمة إلى" سامي" رجل المخابرات الذكي وهو يهودي من أصل عراقي، يعيش هذا الرجل صراعاً عنيفاً مع ذاته بعد أن نسف مع رفاقه في الحركة الصهيونية كنيس "مسعود شمطوف" في العراق على المصلين اليهود لدفعهم للرحيل إلى فلسطين؟!!.إنها فعلاً خطط لا تخطر على بال الشيطان، ان الكاتب يجند في حبكته معطيات تاريخية مهمة، هذه المعطيات تأتي منسجمة مع النسيج الدرامي للرواية فتثري القارئ بالمعلومات القيمة وتضفي أبعاداً أخرى على القضية وتكشف حقائق أدت إلى الواقع الحالي بالشكل الذي نحياه، ومنها أيضاً دور الزعامات الرجعية العربية التي أضاعت فلسطين.
وبما أن ما يميز الكتابة الروائية عن غيرها من الألوان الأدبية المختلفة، هي في كونها تتطرق إلى المشاكل العامة فإننا نجد أن الكاتب نجح في عرض ونقد التقاليد التي لا تقتصر على المجتمع الفلسطيني وذلك من خلال تداخلها مع الأحداث، كإيمان شرائح كبيرة من هذا المجتمع بالشعوذة .
يقرر "سامي"أن يتقدم نحو "جميلة" كعابر سبيل يريد أن يروي عطشه ثم يرمي لجميلة صرة الذهب ثمناً لشربة الماء التي أنقذت حياته كما قال؟!! وينصرف بسرعة ليعود لمراقبة الموقع أيامًا أخرى، وجميلة اسم على مسمى كما يصفها الكاتب طولها فارع، قدها مياس، وصدرها مكتنز يثير الشهوة في نفس "سامي" فينسى المهمة التي جاء من أجلها وعندما يتسنى له الانفراد بها بعد أن صعدت لقضاء حاجتها بين الأشجار ينقض عليها ويرشها بالمخدر ويغتصبها، وهنا يربط الكاتب بين اغتصاب جميلة واغتصاب الأرض، يعود سامي للمراقبة الموقع من بعيد والخوف من رد فعل ينهشه ولكنه يقنع نفسه بأنها لن تجرؤ على مصارحة أهلها بالأمر تبعاً للتقاليد العربية، فيقرر أن يجند فعلته في سبيل إكمال خطته، ولكن جميلة لا تأتي إلا بعد عدة أيام، بعد أن خرجت قليلاً من أزمتها النفسية التي سببتها عملية الاغتصاب، فيجدها قد نحلت من شدة حزنها وهنا يبرع الكاتب في وصف مشاعرها التي تفتت الأكباد، لقد وصف بدقة متناهية وجعها الشديد عندما أخذت تتقلب في فراشها حتى أصيبت بالهلوسة إلى أن جاءت لاحقاً عملية الاستسلام؟!!
• أما كيف جاء الاستسلام؟ هذا الاستسلام جاء ثمرة لعدة عوامل، أهمها أن سامي هددها بفضحها أمام أهلها إذا لم تتعامل معه فتخشى الفضيحة والقتل وهنا يعرض الكاتب مرة أخرى من خلال الحبكة عيوب المجتمع العربي، منها انه لا يغفر للأنثى حتى لو لم تكن مذنبة؟!! لقد كان ثمن هذه التقاليد غاليًا بحق شعبها حيث تستسلم كلياً لإرادة سامي الذي يمنحها مسجلاً ويتفق معها على تشغيله أثناء اجتماعات الثوار ووضعه بعد ذلك في جذع الزيتونة! تحاول "جميلة " أن تجد المبرر لجريمتها فتقول أن الزعامات العربية هي التي أضاعت فلسطين، ويتوالى قتل الثوار؟!! ومنهم زوج أختها الموعود التي كانت ملجأها إلى أن يُلقى القبض على زوجها "عدنان" بعد عملية عسكرية ناجحة يقوم بها الثوار ليجري تعذيبه وإحضار زوجته وتعريتها أمامه مهددين باغتصابها ما لم يعترف . الحقيقة هي أن القارئ يصدم أمام هذا الواقع.. شعور مبهم قد يعتريه الحقيقة هي أن القارئ يصدم أمام هذا الواقع.. شعور مبهم قد يعتريه وهنا يطرح السؤال:إلى متى ستبقى النوستالجيا
(NOSTALGIA) حاضرة في ذاكرة شعبنا، ملاحقة له؟!!
بعد ذلك تشعر جميلة بنمو الجنين في أحشائها وهنا أعتقد بأنه كانت - نقطة ضعف - في حبكة الرواية حيث تتلاحق الأحداث بكثافة أثناء فترة الحمل وكنت أفضل أن تأتي هذه الأحداث أثناء فترة زمنية أطول.. تتساءل جميلة هل جاء الحمل من زوجها "عدنان " أم من سامي ؟ سؤال محير ولكن تخلص إلى نتيجة قاطعة بأنه من سامي إذ أنها جامعت زوجها الذي عادة ما كان يغيب في مهمات خاصة قبل العادة الشهرية في حين ان سامي اغتصبها بعد ذلك ليزداد وجعها، حوار ذاتي اليم تجريه مع نفسها بل صراع يدب الشفقة في نفس القارئ وقد يسقط دموعه؟!! تحاول إجهاض نفسها بحركات عنيفة ولكن عبثاً، الجنين متشبث في أحشائها، وتفكر بالانتحار ولكنها في النهاية تستسلم على انه قدرها في هذا العالم القذر كما تصفه بألم شديد
ولكن سامي لا يتخلى عنها ويغدق في عطائه طويلاً لتجمع بينهما علاقة حب آثمة وهكذا يرمز الكاتب بين الأرض وجميلة التي تمثل القضية. أو بين عشق جميلة لمغتصبها وعشق الأمة لمستعمرها ؟؟؟! خاصة بعد قدوم المولود الذي يسميانه " سامي" ويكبر سامي إلى جانب شقيقه... الذي لم نتحدث عنه وعن دور المحيط والأسرة لأننا سنترك للقارئ الاستمتاع في أن يعيش أحداث الرواية بحبكتها الكاملة ولكننا نذكر انه أثناء ذلك يقضي عدنان في السجن إلى أن تقرر السلطات هدم أحد البيوت في القرية فيتصدى الشباب لمحاولة الهدم ويتم اعتقال العديد منهم وهنا يخشى سامي الأب على سامي الابن ويقرر أن يحقق معه ويعلمه بأن التعاليم التي صدرت من الشرطة تقضي بقتله برصاصة ( طائشة)؟!! ما لم يتوقف عن نشاطه، وأمام إصرار سامي الابن على مواصلة النضال يضعف سامي الأب ويعترف لابنه بأنه والده الحقيقي وهنا يطرح السؤال: هل جميلة على استعداد أن تعترف؟ وهنا أعتقد بان نهاية رواية هادي زاهر تلتقي مع نهاية قصة "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ، إلا أن رواية السر الدفين لا تتوقف هنا وإنما تستمر في وصف الصراع الذي يحياه سامي الابن وسامي الأب وهنا أعتقد أيضا أن الخاتمة المفتوحة تتيح للكاتب أن يكمل روايته في ثنائية وفقًا لرأياه ومخيلته، وما أريد أن أقوله هو أنه عندما كان يصدر عملاً في السابق بهذا المستوى كانت تقام الندوات وربما الاحتفالات فلماذا لا تقام اليوم خاصة في ظل ضرب لغتنا العربية وأدبنا العربي في هذه البلاد .
أخيرا أقول أن رواية السر الدفين يمكنها أن تتحول إلى أروع فيلم سينمائي يصور واقعنا من كافة جوانبه فأرجو أن تجد طريقها إلى عالم السينما.

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 1730