هم البنات للممات !

تاريخ النشر 29/12/2010 18:45

بقلم : ربيع ابريق - ابو سنان

"يا أيها النفس المطمئنة  ارجعي إلى ربك راضية مرضية  فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " صدق الله العظيم. أنهى الشيخ الجليل قراءة ما تيسّر من الآيات العطرة من القرآن الكريم   ، ثمّ طلب من المعزّين أن يدعوا بالرحمة والمغفرة للمرحومة قائلا:" الّلهم أغسلها بالماء والثلج والبرد، الّلهم نقها من الخطايا ، كما ينقّى الثوب الابيض من الدّنس ، ووسّع مدخلها واسكنها فسيح الجنان..."
وهكذا انتهت أيام العزاء الثلاثة ، فقام أبو سمير  وغادر المسجد متجها نحو بيته برفقة أقاربه ، بعد أن إنفض المعزون من حوله . كانت خطواته ثقيلة للغاية ، كخطوات السلحفاة أو أشد بطئا منها...إنه يتعمد السير البطيء ، لكي لا يصل إلى بيته بسرعة، محاولا تأجيل اللقاء بينه وبين رفيقة عمره أم سمير، تلك الوحيدة التي بقيت له في هذه الدنيا القاسية الغدارة بعد المصيبة التي المّت بهما على حين غرة . لقد فضّل العودة سيرا على الأقدام إلى البيت ، وأثناء ذلك لاقاه بعض المعارف من أهل القرية ، فتوجهوا اليه معزينه بوفاتها :" الله يرحمها" ، "العوض بسلامتك يا ابا سمير"...فهزّ برأسه دونما إجابة ، مثلما فعل في الايام الثلاثة المنصرمة منذ وقوع الكارثة . ثلاثة أيام لم ينبس  فيها ببنت شفة ، بل أرخى العنان لمقلتيه بأن تذرفا الدموع وبغزارة ...
وصل أبو سمير للبيت . كان في انتظاره بعض النسوة من الأقارب والمعارف اللاتي توجهن إليه لتعزيته . اقترب من أم سمير ، لكنه لم يستطع النظر إلى عينيها المتجمرتين:" ماذا حدث لنا يا أبا سمير؟ ماذا حلّ بنا ؟ الولد في ... والبنت في ...لماذا!؟ لماذا !؟ لماذا!؟"
ألقى أبو سمير بجسده المنهك على أقرب كرسي وجده أمامه. أخذ يتأمل ويفكّر ، يتذكر ويُحلّل ، محاولا أن يستوعب ما حدث. لقد رزقه الله سبحانه وتعالى ولدين في حلاوة الشهد ، بكره سمير واخته سميرة. رباهما برفقة زوجته أحسن التربية. كبر الولدان فأوصلهما إلى أحسن الجامعات ليرتويا من نبع العلم والمعرفة ، وبحمد الله تخرجا بنجاح- مهندس ومحامية. لقد كان جل اهتمام أبي سمير وزوجته في تربية الاولاد ، فقلقا جدا عليهما ، خاصة على سميرة . فمنذ أن أصبحت في جيل المراهقة بدأ الخوف عليها يساور أهلها، خوفا من وقوعها فريسة لذئب بشري ، قد يقضي عليها وعلى سمعتها الشريفة ، وبالتالي يدمّر مستقبلها. بقي هو وزوجته في حالة تأهب مستمرة بسبب قلقهما عليها ، وكل ذلك نابع من حبهما الشديد لها وحرصهما عليها. كان يجلس أبو سمير  دائما مع زوجته ويقول لها ما بين المزاح والجّد:" يا أم سمير ، أحيانا أشعر بصدق القول –"هم البنات للممات!"  فتقاطعه معترضة :" لا يا أبو سمير ، لا تقل هذه العبارة ، فابنتنا والحمد لله مؤدبة وخلوقة وواعية . اشكر ربك يا رجُل على هذه النعمة!" فيردف قائلا:" أنت تعلمين أن ابنتنا وصلت إلى سن الزواج ، والله أعلم ماذا سيكون نصيبها في هذه الدنيا. البنت عندنا معززة وموقرة ولا ينقصها اي شئ وتحظى بمعاملة الأميرات ، ومن يعلم كيف ستكون معاملة زوجها لها ؟ هل سيتقي الله فيها؟ هل سيحافظ عليها ؟ هل سيسعدها ؟ أسئلة كثيرة تدور في خلدي حول مستقبلها ... يا ام  سمير ، سيبقى وضع فلذة كبدي في بيت زوجها هاجسا لي حتى يتوفاني الله!!!"
وهكذا... ظلّ هذا التفكير في مصير ابنته راسخا في عقله، إلى أن حضر العريس المنتظر . في البداية بدا  شابا خلوقا ، متفهما وواعيا، فوافق عليه الأهل بعدما أظهرت سميرة رغبتها في هذا الزواج. كانت بداية حياتهما الزوجية حياة رغد وهناء، ولكن بعد مرور سنة على هذا الرباط بدأت المشاكل تنخر كالعث فيه وبدأت المشاكل تطفو على سطح حياتهما الزوجية، وكانت المشكلة الأساسية تكمن في تدخّل أمه في حياتهما بشكل مثير للإشمئزاز، فهي تريد ابنها دائما في حضنها وبين كنفيها ، تريد ان تعرف الى اين يذهب ومتى يعود، ماذا يأكل وكيف... بدأت سميرة تستاء من هذا التطفل ، ولكن زوجها كان يحاول اقناعها بان هذا أمر طبيعي ، لأنه وحيد أمه ، فمن الطبيعي أن تقلق عليه وتهتم به.
مع تطوّر النقاش بين سميرة وزوجها بدأت تتلاشى عن وجهه صورة الحمل الوديع وتنكشف صورة الوحش الآدميّ، فبدأ أولا بالشتم والاهانة والتوعد ، ومن ثم باستعمال العنف الجسدي والضرب المبرح، بدأ يضرب مخلوقة عاشت أكثر من عقدين في بيت والديها دون أن يهينها أحد أو يضربها أحد، أو...
تدخّل أبو سمير وزوجته مرارا ، محاولين إصلاح ذات البين ، لكن دون جدوى ، فقد أزدادت معاملته سوءا يوما بعد يوم، حتى بدأت سميرة تفكّر جديا بالانفصال عنه. جنّ جنون أبو سمير عندما صارحته ابنته بما يجول في خاطرها، لأنها اذا طُلقت ستعود بهمها الثقيل إلى بيت أهلها، وسيعاني عندها من هاجس جديد، هاجس وضعها بعد الطلاق،  في ظل ما تعانيه المطلقة من مواقف  ومتاعب في المجتمع...
بقيت عائلة أبو سمير في حالة من الاستنفار ، إلى أن حدثت الكارثة قبل ثلاثة أيام ، فبعد أن حصلت مشكلة جديدة بين سميرة وزوجها ، هاتفت اهلها طالبة من أبيها التدخل لحل المشكلة . طلب سمير من أبيه أن يذهب مكانه إلى بيت اخته ، علّه يُساعد ويصلح بينهما. لكن ما أن وصل سمير إلى بيت اخته حتى وجدها جثة هامدة ملطّخة بالدماء ، بحيث كان السكين مغروسا في قلبها الطاهر البرئ. كان زوجها يجلس بصمت بجانب الجثة دون ان يحرك ساكنا. جنّ جنون سمير عندما شاهد هذا المنظر الرهيب ، ودونما تفكير استل السكين من قلب اخته وغرسه في قلب زوجها...اتصل سمير بالشرطة وابلغهم بما حدث...
 
-         أبا سمير ، العوض بسلامتك والله يرحمها...
-         عاد أبو سمير من رحلة ذكرياته السريعة ، رافعا رأسه، ناظرا الى مصدر الصوت المعزي ، ذلك الصوت الذي يميّزه جيدا، إنه أٌقرب وأرق صوت على قلبه- صوت أم سمير –زوجته ورفيقة دربه.
-         العوض بسلامتك يا ابو سمير...

لقد قلت لك مرارا يا أم سمير إن هاجسا ما يُخيفني ويرعبني ...عندما قلت لك أن " هم البنات للممات" كنت أقصد " مماتي" أنا عندما يتوفاني الله...لم أعرف بأن" الممات" سيكون لذلك الكنز الذي طالما خفنا عليه وحرصنا عليه، لم أعرف أن" الممات" سيكون لمنبع الحنان والعطف ... لم أعرف بأن "الممات" سيكون لابنتي!!!!

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.
1.قار ئةصدق المثل هم البنات للممات اللة سبحانة وتعالة يعين كل اب وام اذ واجهت ابنتهم مشاكل كل شىء مكتوب من عند اللة سبحانة30/12/2010 14:18
2.رسلان شكيب عزّام .قصّة مؤثّرة جداً , وصفك يا اخ ربيع رائع جداً . وصفك يدلّ على وعي ,وإنسانيّة ,وإيمان ,وفّقك الله , وحماك , وابعد الشّرور عنك .09/03/2011 - 07:49:23 pm

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 1808