كل لحظة مهمّة - بقلم فؤاد سليمان

تاريخ النشر 13/1/2010 15:29

بقلم: فؤاد سليمان

 في الأمس استيقظت متأخرًا، فأنا لا أملك عملاً يضطرني أن أبكِّر في الذهاب إليه. وسرعان ما اتصلت زوجتي، فقد صارت تتصل من مكان عملها كل يوم تقريبًا وتتذمّر من كونها في العمل وكوني لا أزال في البيت. بعد أن أنهيت حديثي معها قررت أن أذهب للغذاء مع أهلي الذين لم أزرهم من مدّة. أمّي رحبت بي كثيرًا على الهاتف حتّى أسرعت في الذهاب إليهم وأنا أفكّر بأنها لا بدّ منهمكة في تحضير الطاولة. صرت أتخيّل الصحون المرتبة على الطاولة وفي وسطها "جاط" كبير مليء باللحم مع الرز والفاصوليا. حين وصلت بيت أهلي وجدت أنهم قد أبقوا لي قطعتين من الـ"بيتسا" التي طلبوها عبر الهاتف، أما أبي الذي كان نائمًا بعد أن أحس بالدوخة، فقد استيقظ حين قرعت باب غرفة عمله وبدأ يصف لي شخصيات قططه الأربعة التي اقتحمت الغرفة وقررت الاستيطان فيها. راح أبي يشرح لي كيف أن قططهم ابتعدت عن أختي مع أنها هي التي لملمتهم من الشوارع وأغدقت عليهم العطف والحنان. قال أنهم فعلوا ذلك بعد أن رفع درجة حرارة المدفئة الموجودة في غرفة عمله. "أي شعب، شعب القطط هذا"، قال أبي، "لقد خانوها مقابل درجتين أو ثلاث درجات مئويّة".

أكلت بواقي الـ"بيتسا" ثم خرجت إلى الشرفة لأدخن سيجارة وبدأت أتأمل حياتي. لا بد من الاعتراف، قلت لنفسي، بأني لم أعد صغيرًا، بل أنا اليوم رجل كبير ومتزوج، ومع ذلك، فأنا لا أزال من دون مهنة تكسبني دخلاً ثابتًا. صحيح أن الأمر قد بدأ يتغيّر، فقد صرت أحسن استعمال برنامج لمونتاج الفيديو، مما قد يكسبني ولو حدّا أدنى من النقود، إلا أن التفكير في وضعي المادي غالبًا ما ينتهي بي إلى الشعور بالإحباط. من ناحية أخرى، لي أهل يدعمونني ويشجعونني على مواصلة مشروعي الأدبي، كما وأن مقالتي الأسبوعيًة في الاتحاد تلقى اهتمامًا وتجاوبًا من بعض القرّاء، ومن ضمنهم أناس أعرفهم وأكن لهم أشد تقدير. إذًا، الأمور لا تزال "تحت السيطرة" ولا تزال في حياتي أمور حسنة تُوازن الأمور السيئة. ومع هذا فأنا لا استطيع الهروب من الإحساس بما يقوله الفنان جوان صفدي حين يغنّي: "صار عمري خمسة وثلاثين، صار لازم أصير كبير، صار لازم آخذ قرارات، صار لازم أعمل تغيير".

وأنا في خضم هذه الأفكار جاءت أختي إلى الشرفة وجلسنا نشرب القهوة. قالت أنها تترجم نصًّا توراتيّا لأحد طلاّب الجامعة مقابل مائة شاقل، "أما أنت"، استمرّت تقول: "فبيوم واحد تربح ألف شاقل!!". عندها تذكّرت الـ"شيك" الموجود في محفظتي والذي كسبته مقابل يوم طويل أمضيته في الترجمة الفوريّة من العربيّة إلى الإنجليزيّة. كان ذلك ضمن مؤتمر عن حقوق الإنسان، نظمته أحدى المؤسسات العربية الرائدة في واحدة من قرى المثلث. السفر إلى القرية كان متعبًا ومزعجًا، فقد طُلب مني أن أوصل معي امرأة يهودية كانت كل نصف دقيقة تقول لي بالعبرية ما معناه: "ولد جيّد". يومها اشتغلت كمترجم فوري لأربعة أو خمسة أشخاص لا يتكلمون العربية. الجلسات التي كان علي ترجمة مداخلاتها كانت طويلة، حتّى أني فقدت مرّة تركيزي، وبدلاً من أن أترجم "علماني" كـ-Secular، ترجمتها كـsexual. وطبعًا كان هذا خطأ لا يمت لأجواء الندوة بصلة. وبالمناسبة، فإن غالبيّة النساء اللواتي حضرن كن محجبات، وأذكر أني حين كنت أنظر أمامي، كنت أرى الكثير من الملابس والأقمشة، وكان عليّ أن أجتهد وأمعن النظر حتّى أبصر وجهًا هنا وآخر هناك.

حين استيقظ أبي وخرج من غرفة عمله، قررت إعطائه الـ"شيك" لكي يدخله في حسابي في بنك جامعة حيفا. أعطيته الـ"شيك" وشعور بالفخر المؤقت يرافقني، ثم خرجت لشراء بعض الحاجيات وعدت إلى بيتي وبدأت أعد العشاء لزوجتي التي كنت أتوقع أنها سوف تعود مُتعبة بعد يوم عمل طويل.

طبختُ لزوجتي الـ"سباجتي" وفهمت بأني رجل "فمنيستي"، ثم أعددت لنفسي فنجان قهوة وفهمت أن هذا كان يوم آخر في حياتي. سحبت سيجارة من العلبة، ثم أشعلتها وأنا أفكر أن الحياة هي لحظة... لحظة نعي فيها وجود الكون والطبيعة والفكر، ثم تنتهي.

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 1787