أُوبو أبو سالم وقسوة المسرح المُعَقَّم - مسرح الفوضى المنظّمة - بقلم راضي د. شحادة

تاريخ النشر 18/10/2009 15:50

تُعدّ مسرحية "أبو أوبو في سوق اللحامين" نموذجا صارخا ل"مسرح القسوة"، وهو تعبير تنظيري للفرنسي "أنتوني آرتو"، وكأنما هي جاءت لتطبّق بسخاء ما كُتب تنظيرا، اراد من خلاله ان يخلق للعرض المسرحي قسوة اشد من قسوة الحياة لكي تتم عملية التطهير المطوّرة بشكل حداثي عن ارسطو.

    تطرُق المسرحية موضوع السلطة والنزعة المستميتة والوحشية من اجل الحصول عليها، وقد استوحاها فرانسوا ابو سالم من مسرحية "أوبو" للفرنسي "الفرد جاري"(1873-1907)، واخرجها ويمثل فيها الى جانبه الشاب ادهم نعمان. و"أوبو" النسخة الفرنسية كتبها "الفرد جاري" في ثلاثة اجزاء: "أوبو ملكا"، "أوبو زوجا مخدوعا"، و"أوبو عبدا". وقد استوحى فرانسوا مسرحيته من الأجزاء الثلاثة، ولكن معظم استيحائه كان من "أوبو ملكا"، مع توجّه جذري مهم ان الملك استُبدل بمختار. فحُبّ السلطة ينطبق ايضا على الناس البسطاء، والضعيف ينزع الى ممارسة سلطته على الذي اضعف منه، من خلال رب عائلة يطمح وهمًا ان يستعيد المخترة ممن استولوا عليها، ولكن من خلال لعبة العزلة في البيت خلال عيد الأضحى حيث يعيّد مع ابنه وزوجته، فتتحول المعايدة والعزلة الى لعبة قاتلة وحشية ومرعبة. لم يجدوا ما يعيّدون عليه فلجؤوا الى اللعب، الى الاحتفال والوحدة وشرب الكحول، حيث خطرت فكرة اللعب على بال الابن مدّعيا انه شاهد اناسا يتدربون على عمليات الانتقام والقتل في فضائية "ام بي سي آكشن" و"نحن ايضا يجب علينا ان نحطاط ونتدرب". فالأب والابن في "ابو أوبو" يلعبان من اجل التسلية لأن الدنيا عيد، فيلبسان ملابس العيد ويشعران انهما دخلا الشخصيات التي ارادا قتلها. ومن اجل ذلك يلعب الثلاثة لعبتهم كل على طريقته مثل أي محب للسلطة، مع نزعة مريضة للثأر والانتقام.

    هذا الإسقاط الجديد للنص الغربي وللفكرة وتطبيقها على مجتمع شخصياته عرب يعيشون في القدس القديمة زاد ظاهرياً من الشعور بحقيقة ان موضوع السلطة موضوع إنساني عام مزروع في عقول الافراد اينما كانوا، وزاد اللعبة المسرحية عبثية وقسوة فأصبحت أكثر غرابة ومثارا للخيال، فالنزعة الى التسلط مزروعة في البشر من أصغرهم الى أكبرهم، ومن قويهم الى ضعيفهم، وهنالك دائما ميل غريزي للحصول عليها. إنها عودة الى المجتمعات القبلية الثأرية. تزداد الحاجة للسلطة والتسلط كلما داهمتنا غزوات الإحباط والشعور بفقدان الأمل، فنلجأ الى التقوقع داخل سياج القبيلة والدين ظانين اننا من هناك على الأقل يمكننا ان نحاول استرداد سلطتنا وممارستها على الأضعف منا، فنمارسها على بعضنا البعض، ولكننا بسبب ذلّنا وشعورنا بالهزيمة لا نتجرأ ان نمارسها ضد العدو القوي وصاحب السلطة الأقوى بل على اقرب المقربين منا.

يقول فرانسوا:  "يجب عرضها بوحشية اكثر وبقسوة  من اجل التحذير والتنبيه، وبخاصة اننا نعيش واقعا سياسيا وصل الى أقسى البشاعة، ولكن بأُسلوب اللعب والكوميديا المتوحشة والقاسية".

    وبرأي فرانسوا: "الكوميديا والسخرية هما أجمل ما يمكن التعبير من خلاله عن المسائل الصعبة". ولكن السؤال الجدلي الذي يتبادر الى الذهن هو: هل نستطيع ان نسقط ذلك بأي طريقة وفي أي وقت ومع أي جمهور مهما كان يحمل من فكر سياسي واجتماعي واقتصادي مسبق في ظروفٍ حياتية معينة، أكان ذلك جمهورا صهيونيا يحمل فكرا مسبقا عن الإرهاب او جمهورا فلسطينيا او عربيا يحمل فكرا مسبقا عن التحرر الوطني وفلسفة الضياع في تحويل السلطة الى جلد الذات بحجة المحاسبة والنقد والجرأة وعدم دفن الرؤوس في الرمل كالنعام وكالقطيع؟ هل يبرر ذلك النظرية الانسانية العامة التي تنطبق على جميع البشر كي نسقطها على الانسان الفرد بمعزل عن المجموعة التي ينتمي اليها، أكانت تلك عائلة او قبيلة او شعب او أُمّة؟ واذا كان الأمر يتعلّق بالارهاب والقتل والاحتلال وحب التملك والتسلط على الآخر الذي لا وطن له ولا حدود، فأليس حَرِيّا بنا ان تكون اولويات معالجة مثل هكذا امور ابتداء من الأكثر فتكًا وقتلا وصاحب أكبر الأرقام القياسية بالمجازر الى الأقل اخيرا وليس تلبيسها الى المتهم بالارهاب؟ اليس الأوروبيون والأمريكان والصهاينة اولى بأن نتطرق الى جرائمهم ومجازرهم واحتلالاتهم وحروبهم الكونية كي نصنع لهم مكانا لملحمة يلعبون لعبتهم فيها وهم يُقطّعون لحوم البشر ويأكلونها بطريقة حضارية بالشوكة والسكين وهم في أبهى حللهم وياقاتهم "العصرية والحضارية"، كي ننبّه العالم والبشرية الى حجم جرائمهم التي اقترفوها؟ هل العرب والمسلمون هم الذين صنعوا غيتوهات الابادة الجماعية لملايين الأوروبيين ولليهود ام الألمان؟ لماذا يتهموننا باننا نحن الذين ارتكبنا جرائمهم الفظيعة، فيلصقون بنا تهمة الارهاب فيعاقبوننا على جرائمهم؟ الا يكفي ما يتابعه هؤلاء في ممارسة العابهم المجازرية الوحشية ضدنا كي يكون "ابو أوبو" في ملعبهم؟ فإن لم يكن تطبيق ذلك من باب منطق اننا لا ندّعي بأننا حملان وديعة فعلى الأقل من باب منطق الأولويات.

    وفيما يخص الفرد الانسان الكوني بشكل عام، فأبو سالم الأممي النزعة المخلوط النسب والهوية، فهو من اب مجري وام فرنسية ويعتبر نفسه فلسطينيا - يعيد العقدة الى جسد الانسان الفرد الذي يتحول الى مجموعات بشرية تحمل صفاته بشكل جماعي، وما يمكن تطبيقه عندها على الأفراد يمكن اسقاطه على المجموعات، يؤمن انه: "في جسد كل انسان يوجد لوزتان مسؤولتان عن الخوف وعن منطق القوة. شيء قديم موجود لدى الانسان مما ادى الى خلق نظام هرمي ينطبق على المجموعات البشرية. منذ القدم لا يعيش الانسان لوحده بل هنالك قطيع ومجموعة تحميه". انها فلسفة تطبيق نظام العقل والغرائز التي تبدأ من الغرائز الحيوانية الى غرائز وعقلنيات البشر حيث لا تزال الطبيعة المتوحشة قابعة بقوة في، ومسيطرة على دماغ الانسان المتطور في عصرنا، حيث فلسفة الأسياد والعبيد لا تزال طاغية. هذه الطبيعة الجسدية المتحكمة بنا لم يستطع جسد الانسان الإفلات منها حتى وان أصبح في أرقى درجاته الهوموسابيانية(المتعلقة بالمخلوق المفكر). "علينا ان ننبّه ونحذّر دائما لكي يتحكّم الانسان بهذه الطبيعة المتوحشة لكي نعيده الى أرقى أشكال الأخلاق والإنسانية ونحثّه على ممارسة فلسفة اللاعنف وتحويل القوة الدماغية الى قوة ايجابية تكبح الشر في داخله وتحكّم العقل والفهم. في جسد كل انسان توجد زاوية وحشية وأخرى، تجعله عندما يكون مرتاحا، يتحلى بقيم متوازنة وأخلاقية، وعليه ان يفهم انه يجب ان يسيطر عليها ويرفضها. الانسان مركب من عدة أدمغة متناقضة. في رأس الانسان الواحد عدّة مناطق تتناقض وتتنازع تجري فيها حروب عصبونية، والعصبونة هي الغدة الدماغية".

    المعادلة الاسقاطية التي توازي بين عنف ووحشية الملك أُوبو التي نُفّذت بحذافيرها فعليا، أي بدون اللجوء الى عنصر اللعب، في مسرحية "الفرد جاري"، وبين عنف ووحشية المهووسين باستعادة سلطة المخترة في القدس عن طريق تبديل الشخصيات المذبوحة والمقطّعة في مسرحية "جاري" بشخصيات تنوب عنها قِطَع اللحم في سوق اللحامين في ملحمة ابو أوبو الفلسطيني المقدسي، وهو شيخ يعمل ويسكن قريبا من المسجد الأقصى- وانا هنا لا اقول ذلك بدافع الدفاع عن المشايخ ورجال الدين والديانات- تنذر باسقاطات لا يستطيع عقل المتلقي ان يتخلّص من خلالها من فكره المسبق عن حياتنا المشحونة بالعنف والاحتلال والتسلط في هذه المنطقة من عالمنا، ومهما لجأنا الى حلالية استعمال لحم الحيوانات في سوق اللحامين كشخصيات  نلعب بها كقطع غيار مسرحية بديلة للحوم البشر، فإنّ هذه اللعبة لا بدّ ان تُلصِق بأدمغتنا فكر الإرهاب الذي يُقطّع أجساد وعقول البشر إرباً إرباً بلا رحمة، وفي خضمّ اللعبة المسرحية الكثيفة يختلط علينا التمييز ان كان ما نستعمله في لعبتنا هو لحوم بشرية ام لحوم حيوانية. ونتساءل: هل اللعبة المسرحية العبثية الإيهامية والإيحائية تساعدنا على الشفاء والتخلص من التفكير في مدى إيجابية او سلبية اللعبة الواقعية التي قد نسقطها على قضية سامية وشعب معين؟

    هذا الاسقاط لملك غربي افتراضي- انه ملك بولندا ويقاتل ملكها وقيصر روسيا، فلا بدّ ان يتبادر الى ذهن الجمهور العربي او المسلم انهم ملوك غربيون مسيحيون يتنازعون على السلطة- على شيخ مسلم في القدس يمارس عقدَهُ السلطوية وينفذ جرائمه مستنجدا بالقرآن الكريم مدّعيا في المظهر انه متدين بينما هو في داخله وحش كاسر ومجرم وسفاح وسكير، ينقل المغزى الذي ابتكره "الفريد جاري" من مغزى لتمرير فلسفة الغريزة الشريرة السلطوية الانسانية العامة وغير المحددة في كل مكان وزمان الى مغزى محدود بفلسطينية البطل وعروبته واسلامه وتدينه. ان تحديد دين البطل بدلا من تعميمه كانسان كوني يشجع أحكامنا المسبقة على بيئة منطقتنا الفكرية في مكان حساس ومتحيز، حتى وان استبدلنا الشيخ بشخصية مطران او بشخصية رابي صهيوني. فالمشاهد الصهيوني بشكل عام سينظر حتما الى شخصية الشيخ انها عدوه المتوحش، والمشاهد الفلسطيني والعربي والاسلامي بشكل عام سيعتبرها شخصية تعميمية مشوِّهة لأن الفكر المسبق لدى المشاهد سيدفعه حتما بهذا الاتجاه. والمعادلة ذاتها وردود الفعل ذاتها ستكرر في حال بدّلنا الشيخ بشخصيات من ديانات اخرى.

الشّرْخ المُربِك بين الشيخ والملك:

    قمة التوازن بأن يكون بمقدورنا الجمع التركيبي بين المتناقضات واستغلال الفلاشباكات(العودة الى الماضي) وكيفية ربطها مع الحاضر بحيث تبدو وكأنما هي لا تزال تحدث الآن وربما تكون تنبؤا بما سيأتي. قمة التوازن في العمل المسرحي ان يصل الى درجة يكون فيها اللعب المسرحي مضبوط ومحكم بين اللعب المسرحي والمضمون القصصي المعالجَ والمطروح في العمل.. ولكن، وفي غالبية اعمال فرانسوا ابو سالم بقيت حبكة اللعبة المسرحية وجمالية الشكل طاغية على حبكة المضمون، بل كثيرا ما يترك للمضمون مغزى سلبيا، أكان ذلك عن خلل في التأليف او بشكل متعمّد.

    لقد اعترف "الفرد جاري" بأن أحداث مسرحيته تدور في بولندا وعن ملك افتراضي. وفي الحقيقة فانه في حينه لم يكن هنالك بلد اسمه بولندا فهو أراد ان يضع الأحداث في لا-مكان من اجل الفانطازيا واللعب، بينما أصرّ فرنسوا ابو سالم ان تكون الأحداث في القدس وان يكون البطل شيخا، حيث سوق اللحامين لا يبعد كثيرا عن كنيسة القيامة والمسجد الأقصى وحائط المبكى، كي تنتقل اللعبة من ابو أوبو العام الافتراضي الموجود في أي مكان وبين اية مجموعة بشرية، الى ابو أوبو المعرّف كفلسطيني شيخ مسلم يعيش في مكان محدّد ومعروف. 

    الطاعون الذي اجتاح مارسيليا سنة 1930 قضى على النظام والمجتمع فشكَّل بالنسبة ل"أنتوني آرتو"(1896-1848) طاعونا مطهّرا يبدأ الانسان بعده ببناء نفسه من جديد، وهذا الاسقاط يجعلنا نستنتج اننا نعيش مع "أُوبو سوق اللحامين" في فترة الطاعون العربي والفلسطيني التي يجب ان نتجاوزها كي نتطهّر ونبني مسيرتنا الحياتية بشكل جديد كأفراد وكجماعات.

    كانت رؤية الكاتب "الفريد جاري" للعالم رؤية وحشية لا يحكمها منطق او عقل، وحاول ان يعبِّر عنها في أسلوب حياته وفي مسرحياته. فالملك أوبو يمثل الشر والغرور بعينيه، فهو يسحق كل من يقف في طريقه. شخصية مليئة بالحقد والغدر وتحمل في طياتها روح الثأر. انه غاطس في عقد الوهم، ومهووس بالعجرفة والغرور، ويحلم بحرق كل شيء من حوله. انها القسوة التي تعمّد (آرتو) تجييرها للعبة المسرح كي يؤكد على خضوع الانسان للقوى المعادية المحيطة به.

   تعتبر مسرحية "أوبو ملكا" البداية الحقيقية لمدرسة العبث التي ازدهرت في الخمسينات من القرن الماضي. عرضت مسرحية "أوبو ملكا" في فرنسا لأول مرة سنة 1896، وهي تدور حول فكرة الطمع في السلطة واغتصابها، وتذكرنا في هيكلها الأساسي وبقسوتها وبدمويتها بمسرحية ماكبث لشكسبير. كان "أوبو" ملكا وأصبح قائدا في جيش ملك بولندا، فيتمرد عليه ويذبح الاسرة المالكة ولا يفلت من المذبحة سوى الوريث الشرعي للعرش ووالدته. انه وحش بشري لئيم يجعل نفسه ملكا فيقتل ويعذب الجميع، ويدير المملكة عن طريق القتل ونهب الاموال والسرقة والاستيلاء على الممتلكات، وطحن لحوم القتلى بواسطة آلة تفتيت العقول. يتحوّل هنا في "أبو أُوبو في سوق اللحامين" الى شيخ طامح الى المخترة هو وزوجته وابنه، فينتهي بهم الشر المسيطر عليهم الى مجزرة يقضي ثلاثتهم فيها أحدهم على الآخر بعد ان مارسوا ساديتهم بقتل من حولهم ولو وهما وعبثا ولعبا..

    يبرر ابو سالم اسقاطه للموضوع على النحو الذي قدّمه لنا بأن:" هذه السلطة الملكية المتسلطة نابعة من الدماغ ذاته الموجود داخل اجسادنا كأفراد وكمجموعات"، ولذلك فقد اسقط شخصية الملك والملكة والابن الوريث على شخصية الشيخ رب العائلة وزوجته وابنه، "فهذه مسألة سايكولوجية متأصلة فينا كبشر مهما كانت مشاربنا الطبقية. والدة أوبو مسؤولة لأنها لا ترفض لابنها طلبا ولا حدود لحرية الابن بحجة ان هذا ما يجب ان تكون عليه التربية العصرية الحديثة، بدلا من التربية الصحيحة التي تتمثل في فلسفة انه غير مسموح لك ان تأخذ ما تريد متى تريد. هي ضحية وفي الوقت ذاته هي مجرمة، فهي تزرع فيه الطموح المزيف كي يصبح رئيسا وصاحب سلطة ونفوذ، ودكتورا ومن ثم...ديكتاتورا، فتنزرع في الابن عقدة السلطة والاستعلاء. نحن لا نخدم الابن بهكذا تصرف، بل نهيء له كل الظروف كي يسيطر ولكنها سيطرة عمياء وقاتلة وهدّامة. نولّد لديه الشعور بانه ملك، وسيد ومختار ورب، وسرعان ما نُصدَم عندما نُصفَع بنتيجة عكسية، فالابن يفقد كل اصدقائه ولا يستطيع ان يتعايش باحترام مع الآخرين. هذه التربية بدأت في السبعينات في الغرب ووصلتنا الى الشرق في الثمانينات، مفادها انه من غير السليم ان نقمع اولادنا. ولكن في الحقيقة فاننا يجب ان نقمع اشياء معينة فيهم كحُب السيطرة على الآخر، وعلينا مساعدتهم على التحكم بالشر الموجود بداخلهم، وننهاهم عن ممارسة العنف والتملك والاستغلال، ولكننا في الوقت ذاته علينا الا نقمع فيهم الفكر والتصرف الأخلاقي والحر الذي يتناغم مع البشر ولا يؤذيهم. هنالك حاجة تربوية لوضع الحدود وتحديدها والا وصلنا الى الفوضى. لم نعد نعرف كيف نربي وما هي التربية الصحيحة. الثقافة العالمية تقود الابناء الى حب السيطرة. انها موضة سائدة، وانساننا العربي اكثر انسان معرض لذلك لأنه لا يوجد توجيه وحدود. نتعرض لكل الزبالة الغربية التي تؤلّه هذا السلوك ونقتنع تدريجيا ان هذا هو الحل، وطنيا واجتماعيا وسياسيا، فنتورط مقتنعين ان هذا السلوك هو الصحيح ولا نستطيع ان نمارس القوة مع العدو بل فقط ضد شعبنا وضد اقرب الناس الينا". ان عرض المسرحية على هذا الشكل لا يقوّي هذا التبرير ولا يوصل هكذا مغزى.

مسرح القسوة وطغيان الفرجة على النص:

        فرانسوا ابو سالم فنان يميل الى تحدّي النص المكتوب والمنطوق وتحويله الى نصّ فرجوي. المسرح الفرجوي ببساطة يطمح الى تطوير الصورة البصرية للعرض المسرحي  والتركيز على أداء الممثل وتمهيد الأجواء من حوله كي تدعمه مستعينين بكل العناصر المسرحية المساعدة على تحقيق ذلك، بدلا من التقيّد بحرفية النص المكتوب، ومن ثم المحاولة بقدر المستطاع الابتعاد عن الإلقائية والخطابية والمباشرة. هذا النوع من البحث يقود الى جوهر اللعبة المسرحية الساحرة والمثيرة للخيال والمحفزة على التيقّظ والتفكير، وبالتالي تؤدي الى الحصول على المتعة الفنية والمنفعة الدماغية.

    عندما نتحدث عن الشكل المسرحي الذي يقدمه ابو سالم نجد فيه مُعَلِّما مسرحيا بارعا. لا شك ان تجاربه الحياتية والمسرحية ومتراكماته الثقافية وتعرّفه على ومعرفته لمدارس المسرح التجريبي ومسرح الشمس الباريسي مع "آريان مينوشكين"، وعلى أعمال "بيتر بروك"، و"غروتوفسكي" وستانسلافسكي و"أدولف آبيا" وعلى نظريات المسرح المختلفة وتنظيرات صاحب "مسرح القسوة الفرنسي"أنتوني آرتو" و"جيروم سافاري"، واصحاب مدرسة العبث، و"ألفرِد جاري" احد المؤسسين الأوائل لمسرح العبث، او "الأبسورد"(العبث كلمة تحوي معنى اللعب واللامعقول ولكن معناها الأصلي من اللاتينية هو النشاز او اللامعنى)، من امثال "صموئيل بيكيت" و"يوجين يونيسكو" و"هارولد بينتر"، واضطلاعه على طقوسية الحالات المسرحية الشرقية وخوضه تجارب طويلة الأمد في المسرح الفلسطيني، لا شك ان كل ذلك أنتج لديه خزانا متفجرا من المعرفة المسرحية والثقافة الحياتية التي يحاول ابو سالم ان يعزف على نوتاتها المتنوعة. ان مطبخَهُ المسرحي الذي يحاول ان يصوغه على طريقته مدعوم بمعرفة وثقافة كونية ومسرحية مميزة. انه مسكون بعملية التجريب المستمر، وبهمّ المبدع والباحث عن صيغ جديدة قد لا نعتبرها مدرسة خاصة به وانما هي خلاصة لتجارب معرفية من مدارس اخرى خاضعة بشكل دائم للبحث والتجريب، لدرجة اننا يلازمنا الشعور كمسرحيين ان القدامى وضعوا جميع النظريات ولم يتركوا لنا الكثير من المجال لاكتشاف نظريات جديدة، وما تبقّى في حوزتنا هو نوتات مدرسية لسابقينا نعزف عليها بما اوتينا من قوة خيال وابداع ومختبرية وبحث وتجريب على طريقتنا الخاصة، وكأنما نحن نكاد نصل الى حقيقة ان مختبراتنا الحالية لا تستطيع التخلص من قبضة الرواد الأوائل الذين صاغوا كل النظريات تقريبا، فأصبح من الصعب علينا ايجاد نظريتنا المستقلة كليا عنهم. ومع ذلك فالتجريب في المسرح فتح المجال لإثراء الإبداع ولابتكار وسائل حديثة تقوي العناصر الفنية والحركية، فالبحث دؤوب والاكتشافات متواضعة.

    انه السعي الدؤوب للوصول الى التوازن بين عملية الايحاء والايهام والخداع الابداعي من جهة، وبين ما هو واقعي معاش من جهة اخرى، بحيث يجعلك لا تستطيع التمييز اين منها الأمور المعاشة واقعيا واين منها ما اصبح لعبة مسرحية ايهامية وايحائية. انه اجتهاد محموم لإزالة الحواجز بين الواقعي المعاش والخيالي.

    في مسرحية "أبو أوبو في سوق اللحامين" نحن امام حالة قريبة جدا من نموذج مسرح القسوة ل"أنتوني آرتو" ومن تغريب "بيرتولد بريخت" ومن "مسرح العبث"، والمسرحية الأصلية "أوبو ملكا" ل"ألفرد جاري" مُؤَصِّلة له. بالنسبة لأنتوني آرتو يجب التمرد على النص وخلق حالة خاصة جديدة تتكون فقط على خشبة المسرح بتقوية التركيز على الحركة وسحر الجسد مدعوما بالموسيقى والرقص والرسم والديكور والغناء والحركة والأداء الصامت والإيماء والغناء والسحر والبهلوانيات والدمى والأقنعة والاكسسسوارات والأضواء وسائر العناصر المسرحية. انها معادلة تغييب المؤلف لصالح المخرج، والخوف من تنفيذ هذه المهمة الصعبة كامن في تغليب الفرجة على المضمون، وتمرّد المخرج على دور المؤلف، حتى وان كان هذا التمرد على ذاته اذا لعب الدورين، فيَنقُص التأليف ويَزيد الإخراج، مما سيؤدي الى الضياع في أتون اللعبة المسرحية، فالجمالية الأسمى هي في القدرة على التوفيق بينهما معا.

    أراد آرتو من المتفرج كي يصل الى مرحلة التطهّر ان لا يكون قادرا خلال العرض على التمييز بين الوهم والواقع، واعتبر ان جسد الممثل هو أساس العمل المسرحي، فاللياقة الجسدية تسهم بشكل كبير في التأثير على المتفرج وتتحقق له حالة النشوة التي يصل اليها الممثل، شريطة ان يبقى مسيطرا على العنف الذي بداخله. لقد كان الممثلان ابو سالم وأدهم نعمان دقيقين ورائعين في سيطرتهما على العنف المدروس جيدا والذي بدا وكأنما هو فوضى ولكنها غاية في الدقة والتنظيم والتعقيم. هذا هو "المسرح المعقّم"، وهذا هو الاسم الذي أُطلِقُه على مسرح فرانسوا ابو سالم بشكل خاص. هذه المرة كان معقّما وفي نفس الوقت مليئا بالفوضى المنظمة وبالقسوة المقصودة، ففيه أقصى ما يمكن من صراع بين ما يريده منا ان نظنه يشبه الحقيقة، وبين ان نتخيل الحقيقة ذاتها كما حدثت. عندها يصبح اللحم البشري مشاعا للتقطيع والقتل والتعذيب، ولكنه في الحقيقة لحم حيواني حقيقي مستَغَلّ من اجل إيهامنا بذلك. انه الاستغلال الأقصى للّعبة المسرحية وبأَقصى تجلّياتها وبشكل مقصود ومدروس بدقة فائقة. هذه هي المعادلة الصعبة: معادلة "الفوضى المنظّمة بدقة".

    هنالك إصرار عنيد لدى المخرج على تنفيذ مدرسة مسرحية يؤمن بها نابعة من مختبرية تجريبية ثورية وتجديدية غير متقوقعة في قوالب المسرح التقليدي الواقعي، وهذه المختبرية تبدأ بالتجريب  بما يشبه الفوضى الواسعة وتنتهي بانضباط منقطع النظير أُسَمّيه- اذا ما وصل الى قمّة الدقة والانضباط- ب"المسرح المُعقَّم". "ابو أوبو" نموذج ممتاز لأسلوب "الفوضى المنظّمة"، فبالرغم من انه يساورنا الشعور بالفوضى والقرف والأوساخ وتقطيع اللحوم وبهلوانيات الممثلين وهما يحتلان مساحة المنصة بشكل تلقائي او عفوي او ارتجالي ساحر، الا ان كل ذلك كان مُنَفّذا بدقة بالغة مبرمجة ومدروسة ومُخرَجة بشكل مذهل، وبخاصة استعمال كمية كبيرة من الاكسسوارات بدقّة متناهية، وكأنما يكمن السحر في القدرة الفائقة على استعمال الدّقة من أجل اعادة العمل الى فوضاه الأولى.

لعبة التنقّل بين النصوص:

    القدرة الفائقة على تمرير لعبة اختلاط الواقع بالوهم تجلّت منذ البداية في عبثية نقل النص من اللغة المكتوبة على الورق الى لعبة اللغة المسرحية الأدائية، فالنص المستوحى من نص مكتوب بالفرنسية ومنقول الى اللغة العربية ومستوحى منه نص بالعامية الفلسطينية تُرجمت شخصياته الى أسماء عربية من واقعنا، يقودنا الى مرحلة عبثية او لعبة نقل النص الى المتلقي بلغة جديدة.

   انّ عملية ترويض النص لم تبدأ من هنا بل هي بدأت أصلا منذ ان قرر المؤلف/المخرج/الممثل/ ان يسقط نصاً لكاتب غربي على واقعنا العربي، والتغريب والعبث ايضا كامن في تحويل كل العناصر الى لعبة مسرحية منذ ترجمة النص الى لغة عربية ومن ثم ترجمته من العربية الى العبرية خلال عرضه في مهرجان المسرح الآخر في عكا كي يفهمه الجمهور اليهودي، ومن ثم ترجمته الى لغة العرض المسرحي بحيث ننخرط في اللعبة المكثفة المتتابعة المركبة لكل جسد العرض المسرحي او العملية المسرحية كاملة كي تجسد فكرة لعبة "البينج بونج" بين ما هو واقعي وبين ما هو متخيّل، او مستوحى من الواقع او مقلّدا له بشكل خادع.

    تجربة ان تقرأ الترجمة الفورية للنص على شاشة مخصصة لجمهور لا يعرف العربية وبعدها او خلالها تشاهد الممثلان يقدمان العرض وينطقان النص مباشرة بعد ظهوره على الشاشة تضيف من انبهارك عند مشاهدة الممثلين وهما يمثلانه ويلعبانه بشكل فرجوي ساحر وكأنما هما يعيشان الحالة ويلعبانها بشكل عفوي، وكأنما هي حالة مقلّدة لحياتنا اليومية المعاشة، ولكنها ايضا بالايحاء المستمر لعبة مبالغة وتغريبية، وكأنما هما يقولان ما يريدان ارتجالا او يخترعان النص في لحظة الحاجة اليه ولأدائه ولتمرير معلومة معينة، بالرغم من انهما لم يخرجا عن النص الأصلي بكلمة واحدة. 

    يبقى السؤال المحير الذي لم أجد له إجابة شافية في المسرحية: ما هو المنطق الحبكوي والمضموني الذي دفع الأب وابنه وزوجته الى لعب هذه اللعبة بهذا الشكل المكثف والغزير والمتتالي وهم في الأصل ليسوا ممثلين محترفين بل هم مجرد أصحاب مجزرة لبيع اللحوم في سوق اللحامين؟ وكانت اجابة فرانسوا على هذا السؤال غير مقنعة عندما قال لي:" انها مجرد لعبة. علينا ان نفهمها كلعبة مسرحية فاللعب يساعدنا على المرور في التجربة كي نتعلم منها بعد ان نطبّقها". وفي إجابته انتقاص من معادلة التوازن المطلوب بين الشكل والمضمون.

****

   واخيرا لا بد من الاعتراف بأنني تفاجأت من التمثيل الرائع لفرانسوا ابو سالم الذي لم أشاهده ممثلا من قبل، بل عهدته مخرجا رائعا لأعمالنا الجماعية الرائعة ولفترة عشر سنوات في فرقة ومسرح الحكواتي سابقا في القدس. واما الشاب الوسيم ادهم نعمان فقد بهرني بلياقته وموهبته الفذّة، وهو نموذج رائع للممثلين المثاليين الذين كان يحلم بالعمل معهم أصحاب مدارس المسرح الكبار، وقد تفاجأتُ بعد مشاهدة العرض انه يتحلى بكل صفات الممثل المتكامل، فهو راقص ومغني وأكروبات وايمائي وذو ايقاع حركي ساحر..

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 1787