"معمودية الحجر" في شعر محمود درويش :بقلم د. نبيل طنوس

موقع سبيل بقلم د. نبيل طنوس,
تاريخ النشر 24/05/2014 - 01:18:03 pm

الشعر هو إنتاج مفعم بالرموز والدلالات والطقوس والاستعارات والأساليب الفنية الأُخرى، مثل الإيقاع والوزن وغيرها من أجل التعبير عن مضمون معين. وهو لغة خاصة، حية وغنية بالمعاني والمفاهيم، وكل هذه وغيرها تجعل من الشعر انتاجا ابداعيا وخلاقا للشاعر. وهو يستعمل كل هذه الأساليب من أجل التعبير عن فكرة معينة.
يصعب علينا، أحيانا، فهم إنتاج أدبي معين بدون الرجوع إلى الميثولوجيا شريطة أن لا ننظر إليها وكأنها أساطير وخرافات إنما نظاما له مفاهيم ثقافية وفكرية وأبعاد دينية أساسية يتوجب علينا الاستعانة به لفهم وتفسير إنتاج أدبي.
في هذه الدراسة سأحاول تفسير ظاهرة تحول الحجر في شعر محمود درويش من مفهوم يدل على القسوة وحقلها الدلالي إلى مفهوم مضاد يدل على الحنية والرقة وحقلها الدلالي مستعينا بمرور الحجر بطقوس انتقاليه. وهي عبارة عن مراسيم يصادق بواسطتها المجتمع على انتقال الفرد من مركز اجتماعي معين إلى مركز اجتماعي جديد. تؤكد هذه الطقوس على التغيير الذي يطرأ على مركز الفرد وهي تضعه في مركز الاحداث. الوسيلة التي يستعملها الشاعر في الطقس الانتقالي للحجر هي المعمودية بالماء. 
يشكل "الحجر" ومشتقاته في شعر محمود درويش موتيفا أساسيا ويتكرر عشرات المرات في قصائده (انظر: حسين حمزه، 2012 ص 190-204) ويرى حسين حمزه أن له دلالات عامة عديدة: "يرمز الحجر إلى القسوة التي صلب عليها الفلسطيني من جهة، كما يرمز إلى أداته البدائية في فعل المقاومة. والحجر مكون بدئي في الحياة، أحال إليه الشاعر بدلالة الحنين أحيانا ودلالة الرجم أحيانا أخرى. وقد جعل درويش دلالة جديدة للحجر بعد أن تناص في مقولته "ليت الفتى حجر/ليتني حجر" إذ قلب دلالة النص الأصلي، التي تشير إلى رغبة الإنسان في الخلود والثبات مقابل كل ما يتغير أمام العربيّ في الصحراء. إلى دلالة التحرر والحث على الفعل، وإعادة تشكيل الذات. ويدل الحجر تارة على الفعل والاختراق. وتارة على الصليب، وتارة على فعل الكتابة والتوثيق لتاريخ الضحية على هذه الأرض".
العملية التحويلية ( (Transformation هي إحدى السيرورات التي يعبرها الحجر في بعض قصائد محمود درويش، مثل "ليتني حجر" و"لاعب النرد". والتحويلية هي "عمليّة يسعى من خلالها الكاتب إلى النهوض بالمضمون للوصول إلى حالة أفضل مما هو عليه". وهي عملية إيحائية تعمل على التأثير في الحالة بشكل كبير لتصبح  على أحسن وجه.
كيف يفعل محمود درويش ذلك؟
جاء في دراسة للدكتور عادل الاسطه (2007): "في قصيدة "ليتني حجر". ما معنى هذا ؟ ما معنى الانتقال من الحجر- الجماد إلى الشجرة – النبات. من الذي يحن ومن الذي لا يحن؟ هل الشاعر لا يحن، كما في بداية القصيدة، والحجر يحن، كما في نهايتها؟ ومن المؤكد أن القارئ العادي سيقول: بم يهذي درويش؟ ما الذي يقوله؟ الإنسان لا يحن إلى شيء، ويتمنى لو أنه حجر حتى يحن إلى شيء. هل غدا الإنسان أقسى من الحجر؟ هل هنا دالة للآية القرآنية الكريمة:
"ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون" (البقرة 74).   
قال درويش في رثائه عز الدين القلق: ليت الفتى حجر، وقالها أيضا في "أثر الفراشة"، ثم لما رأى الشجرة قال: وليته- أي الشاعر- قال: ليت الفتى شجرة. الشجرة هنا تحمل معنى رمزيا يشير إلى الإخلاص والاحترام والتسامح والعطاء والأمان والإيمان وإلخ."

يعبر الحجر عند درويش عملية صقل جديدة بواسطة الماء وهي عملية المعمودية بالماء في الديانة المسيحية والتي تحوله إلى حالة جديدة تماما كما يفعل الماء:
الماء:
الماء عنصر من العناصر الأربعة التي تؤلف الكون، ويقول ارسطو إن الماء هو "المادة وأصل كل شيء". وللماء(صدقه، 1989) دور شفائي، فهو العنصر السحري والدواء الشافي لكل الأمراض. إنه يشفي(شفاء سيدنا ايوب بماء البئر)، يجدد الشباب، ويضمن الحياة الأبدية......وتفيد ميثولوجيا "أخيل Achille"، أن أمه، ملكة المياه "تيتيس Thetis"، غطسته في النهر السحري "ستيكس Styx"، كي يصبح بطلا لا يقهر، وهي ممسكة بقدمه اليسرى، التي بقيت خارج الماء. وهذا الامر ادركه الأمير"باريس Paris"، أمير طرواده، فقتله، بعدما أصابه في ذلك المكان من قدمه اليسرى".
يعد الماء في العديد من الديانات مادة طاهرة، ويتم الاغتسال بالماء للتطهر، وللتحلل من الذنوب. ففي الإسلام، يحظى الماء بمكانة كبيرة، إذ ورد في القرآن الكريم - أن الماء أساس الحياة حيث ذكر تحت اسم (الماء) في  17  آية كما ذكر باسم (ماء) في 34 آية،  حيث وردَ في سورة الأنبياء 30:" أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ"، كما أن الماء يستعمل للتطهر والوضوء في كل صلاة ولغسل الأموات قبل الدفن وإن المياه عماد الحياة. وكذلك في الديانة اليهودية، يستعمل الماء للتطهر والاغتسال. وفي الديانة المسيحية، يستعمل الماء للتعميد.
المعمودية في الديانة المسيحية:
 هي طقس الغسل بالماء رمزاً للنقاوة والانخراط في المسيحية. لقد جعل السيد المسيح عليه السلام هذا الطقس فريضة في الكنيسة المسيحية (متى 28: 19 ومرقس 16: 16) إذ إنه جعل التعميد بالماء باسم الثالوث المقدَّس(الأب والابن والروح القدس) علامة على التطهير من الخطيئة والنجاسة وعلى الانتساب رسمياً إلى كنيسة المسيح. وهي عبارة عن عهد. بواسطة هذا الطقس يغفر الله خطايا المعتمد ويمنحه الخلاص. أما المعتمد فيتعهد، هو أو المسؤولون عنه، بالطاعة لكلمة الله والتكريس لخدمته (أعمال الرسل 2: 21 ورومية 6: 3،4 وغلاطية 3: 27 ورسالة بطرس الأولى 3: 21).
  أي أن المعمودية ليست في حدّ ذاتها سبباً للتجديد والولادة الثانية والخلاص، فكرنيليوس مثلاً، حلّ عليه الروح القدس وقبِل الإيمان من قبل أن يعتمد (أعمال الرسل 10: 44- 48) وسيمون الساحر اعتمد ومع هذا ظلَّ إنساناً عتيقاً وأخطأ في عينيّ الرب (أعمال الرسل 8: 13، 21-23).
 تعتقد بعض الطوائف المسيحية بأنه لا لزوم لتعميد الأطفال، وأن الاعتماد للمؤمنين فقط، أي الذين تعدّوا مرحلة الطفولة وبلغوا سنّ الرشد، بحيث يمكن لهم فهم الخلاص والاعتراف والتوبة. إلاّ أن أغلبية المسيحيين تعتبر معمودية الأطفال واجبة، ما داموا أطفالاً لمؤمنين وذلك علامة على الميثاق بين الله وبينهم (د. بطرس عبد المالك قاموس الكتاب المقدَّس/ طبعة 2، بيروت 71).
 من هنا نستنتج بأن المعمودية في الديانة المسيحية تعني قبول تعاليم المسيح وتعني التجديد، والطهارة والحياة (طنوس، 1992).
المعمودية هي المراسيم الرسمية للدخول في المسيحية وبواسطتها يطهر الرب المُعَمد من خطاياه ويمنحه حياة جديدة.(طنوس، 1998 )
في مراسيم المعمودية عاملين أساسيين:
1. التغطيس في الماء – رمز للإماتة.
2. الصعود من الماء – رمز للبعث.
مراسيم المعمودية ترمز بشكل عام إلى إماتة الروح القديمة مع كل صفاتها وبعثها من جديد كروح طاهرة.
عطاء الروح القدس للمُعَمَد في مراسيم المعمودية ينعكس في القيم التالية:
السلام، المحبة، الطهارة، الصبر، الحنان، التواضع وغيرها.
جاء على لسان نقولا كاباسيلاس (1982) حول المعمودية: "الغسل هو المبدأ والشرط الأولي للحياة الجديدة. تعطي المسيحية للمعمودية ألقابا لها معان مختلفة: ولادة، إعادة الولادة، إعادة تكوين، الختم، الحمام، اللباس، المسحة، الموهبة، الاستنارة. أن كل هذه الألقاب تعني شيئاً واحداً وهو قبول سر المعمودية كشرط أساسي لهذه الحياة، ويبدو لي أن كلمة "ولادة" لا تعني إلا ما تعنيه كلمة" إعادة الولاد ة"، وكلمة إعادة تكوين لا تعني إلا ما تعنيه "الولاد ة" و"إعادة الولادة" أي إعادة ولادة أولئك المولودين والمبروئين الذين فقدوا شكلهم فأعادوا شكلهم الأول . حدث ما يحدث مع تمثال مشوه أعاد إليه الفنان شكله الأول . المعمودية هي الفنان الذي أعاد للإنسان شكله وهيئته وطبع صورة في النفس ونحت شكلا وجعلها مطابقة للمسيح بالموت والقيامة. ومن أجل ذلك المعمودية هي استنارة لأنها تعطي الكيان الحقيقي للإنسان وتجعله  معروفا من الله وتقوده وتبعده عن الظلمة الشريرة وتمنحه أيضاً النور، ولهذا سميت حمام النور، لأنها تنير الأنوار في النفوس لتبعد كل غيمة من دنس تتوسط بيننا وبين الشعاع الإلهي، وتهد كل حائط متوسط بيننا وبين الله.
إن مياه المعمودية تقضي على حياة لتعطي حياة أخرى . تخنق الإنسان العتيق وتقيم الإنسان الجديد . فالاختفاء في الماء بواسطة التغطيس يعني القضاء على الحياة في الهواء، أي الموت، أما العودة إلى الهواء والنور فيعني العودة إلى الحياة وحقيقة الحصول عليها. لذلك نستدعي هنا الخالق لأنه هو مبدأ الحياة، والحادث حادث استيقاظ على الحياة وخليقة ثانية أسمى من الخليقة السابقة، والصورة تنقش في النفس بصورة أدق من الصورة الأولى. إننا في المعمودية نطرح وجوداً ونعتاض عنه بوجود آخر. نتنكر لحالة لنربح أخرى".
تكريس المذبح (الهيكل): تكريس مصدر "كرس" تقديس، مباركة. نقول:" تكريس  كنيسة".  كرس  الكاهن الكنيسة أو الأواني الكنسية: خصصها لخدمة الله وباركها . (المعجم: الرائد).   
جاء على لسان نقولا كاباسيلاس(1982)"المذبح هو نقطة الانطلاق لكل خدمة مقدسة: سر الشكر الإلهي، المسحة المقدسة، السيامة الكهنوتية أو إتمام المعمودية ......يأتزر الأسقف بمئزر أبيض يربطه حول خاصرتيه ويديه ثم يركع أمام الله، لا على الأرض العادية بل فوق مسند، ويتضرع مستنزلاً البركات الإلهية والنعم المطلوبة .ثم ينهض ويبتدئ الاحتفال . يرفع المائدة وينصبها على قاعدة ويثبتها بنفسه ثم يغسل المائدة بماء ساخن بعد أن يكون قد طلب من الله أن يمنح هذا الماء الفضيلة التي لا تطهر الأوساخ الخارجية فحسب بل تطرد الشياطين أيضاً. ثم يمسح المائدة بالعطور ساكباً فوقها أجود الخمرة وروح العطر (في نظري روح الورد )، وبعدئذ يمسحها بالميرون المقدس(الميرون كلمة يونانية معناها دهن أو طيب أو رائحة عطرة، يسمى أيضاً زيت البهجة، وهذه الكلمة تطلقها الكنائس الرسولية الشرقية والغربية منذ القرن الأول الميلادي على سر المسحة المقدسة) بعد أن يرسم فوقها إشارة الصليب ثلاثاً مرتلاً لله نشيد النبي المعروف هللويا. ثم يغطيها بقماش ابيض ويزينها بأستار ثمينة ويمد غطاء آخر فوق الغطاء الأول مدهوناً بالميرون. وهكذا يتم ستر المائدة كلياً وتصبح معدة لاقتبال الأواني المقدسة"(ص 32-33).
المذبح مصنوع عادة من الحجر وتكريسه يكون بواسطة صلاة يتم خلالها غسله بالماء وثم مسحه بالميرون المقدس تماما بصورة مشابهة الى طقس المعمودية فالحجر يعبر هنا معمودية بالماء ليتحول الى  مذبح مقدس لتقام عليه الصلاة فالحجر تحول هنا من مادة ارضية الى مادة سماوية.

لنأخذ بعض الأمثلة من قصائد درويش:
أ‌.  "ليتني حجر" من مجموعة "أثر الفراشة"(2008).
ب‌. "لاعب النرد" من مجموعة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي"(2009).
ت‌. "حالة حصار" (2002).
ث‌. "سنختارُ سوفوكليس" من مجموعة "احد عشر كوكبا"(1992).
أ‌. "ليتني حجر": تناص مع الشاعر العربي المخضرم ( تميم بن مقبل ) قال :
 ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ -------   تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
ليتني حجر هي "قصيده مقلوبه" عنوان القصيدة" ليتني حجر" هو النقطة التنويرية (Point)ذات مبنى "الفرضية وعكسها"( (Thesis &Antithesis
يتمنى الشاعر لو أنه حجر. وهو في بداية القصيدة يخبرنا أنه لا يحن إلى أي شيء. وإذا قرأنا عبارة: لا أحن إلى شيء مع العنوان فهمنا المعنى. إنه يتمنى لو أنه حجر، فلا يحن إلى شيء، لأن الحجر، لا يشعر بما يشعر به الإنسان: فلا أمس يمضي ولا الغد يأتي، ولا حاضري يتقدم أو يتراجع، لا شيء يحدث لي! ولكن درويش في نهاية القصيدة يقلب المفاهيم اذ يقول:
يا ليتني حجر
كي أحن إلى أي شيء.
في البداية "لا يحن" وفي النهاية "كي أحن" وهذا مثال على مرور الحجر بعملية المعمودية التي تحوله من "لا يحن" الى "يحن". وهذه هي عملية الصقل من جديد: :"يصقلني الماء"، يقول درويش. وعندما يقول: "يصقلني الماء" فهو يدخل في عملية تطهير وتنقية فالماء يصقله من جديد ويمنحه القدرة على الحنية ويصبح" يا ليتني حجرٌ كي أَحنَّ إلى أيِّ شيء!". الماء هنا عبارة عن عامل مساعد لطقس انتقالي من وضع  معين إلى وضع جديد أجمل:
أَخضرُّ، أَصفَرُّ ... مثلَ مَنْحُوتةٍ، أَو تماريـنَ في النحت...أو مادَّةً لانبثاق الضروريِّ
ما هي "مادَّةً لانبثاق الضروريِّ"؟ إنها الحنية فهي أمر ضروري.
عبث اللا ضروريّ  هو عدم الحنية:

الحالة الأولى                          التجربة                            الحالة الثانية

                                                   
حجر عديم الحنية                 الاغتسال بالماء                   حجر مليء بالحنية
الحالة الأولى:   لا أَحنُّ إلى أيِّ شيءٍ
                    فلا أَمسِ يمضي، ولا الغَدُ يأتي
                    ولا حاضري يتقدَّمُ أَو يتراجَعُ
                    لا شيء يحدث لي!     { عبث اللا ضروري}
التجربة    :  ليتني حَجَرٌ ـ قُلْتُ ـ يا ليتني
                حَجَرٌ ما ليصقُلَني الماءُ {الاغتسال بالماء}{معمودية الحجر/الشاعر}
طهر الشيء بالماء: غسله             
تأثير التجربة: يصبح حالة جديدة:
                 أَخضرُّ، أَصفَرُّ ... أُوضَعُ في حُجْرَةٍ
                  مثلَ مَنْحُوتةٍ، أَو تماريـنَ في النحت...{ مادَّةً لانبثاق الضروريِّ}

الحالة الثانية-الجديدة: يا ليتني حجرٌ
                             كي أَحنَّ إلى أيِّ شيء!  { الضروريِّ}

ب‌.  قصيدة "لاعب النرد"  فالحجر يعبر هنا نفس العملية أي معمودية بالماء:
"مَنْ أَنا لأقول لكمْ
ما أَقول لكمْ ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياح
فأصبح ناياً ..."
والماء هنا يصقل الحجر ويحوله  وجها أو قَصَباً ثقَبتْهُ الرياح فأصبح ناياً أي عبر عملية تحول من وضع إلى وضع أحسن.

ت‌.  قصيدة "حالة حصار"
إذا لم تكن مطراً يا حبيبي
كن شجراً
مشبعاً بالخصوبة ... كن شجرا
وإن لم تكن شجراً يا حبيبي
فكن حجراً
مشبعاً بالرطوبة..
ما يميز الحجر هنا هو رطوبته مما يعني لنا اغتساله/ صقله أي معموديته بالماء.

ث‌.  قصيدة " سنختارُ سوفوكليس"
"إذا كانَ هذا الخَريفُ الْخَريفَ النِّهائيَّ، فَلنَعْتَذِرْ
 عَنِ الْمَدِّ والْجَزْرِ في الْبَحْرِ والْذِّكْرَياتِ..
...............................................ولْنَعْتَذِرْ
لأَهْلِ الغَزالةِ عَمّا صَنعْنا بِها قُرْبَ ماءِ الْينابيع، ......
.........................................، فلْنتَّحِدْ بالسُّحُبْ
لنُمْطِرَ مِنْ أَجْلِ هذا النَّباتِ المُعَلَّقِ فَوقَ أَناشيدِنا
لِنُمْطِرَ فَوْقَ جُذوعِ الأساطيرِ والأْمَّهاتِ اللَّواتي وَقَفْنَ
على أوَّلِ العُمْرِ كَي يَسْتَعِدْنَ حِكايَتَنا مِنْ رُواةٍ
أطالوا عليها فُصولَ الرَّحيلْ
أما كَانَ في وُسْعِنا أَنْ نُعَدِّلَ فَصْلَ الرَّحيلِ قَليلا
ليَهْدَأَ فينا صُراخُ النَّخيل؟
..................................................., واحْتَفَلْنا
بعيدِ الكُرومِ وعَيدِ الشَّعيرِ, وزَيَّنتِ الأَرضُ أَسْماءَنا
................... وصَقَلْنا حِجارتَنا كَي تَرِقَّ ...تَرِقَّ"
"وصقلنا حجارتنا كي ترق". كيف نفعل ذلك؟ نفعله بطقس المعمودية بالماء ذاتها والتأكيد على ذلك هو تكرار كلمات من نفس الحقل الدلالي للماء : الْبَحْرِ، ماء، الْينابيع، السُّحُبْ، لنُمْطِرَ (مرتين). وتعبُر الحجارة طقس المعمودية وتتحول من "القسوة" إلى "الرقة".

وربما يعبُر الحجر في القصائد عملية تطهير وتنقية (Catharsis) وهذه عبارة عن:
1) إفراغ الأمعاء.
2)تطهير العواطف بالفن عند أرسطو.
3)التنفيس: التخلص من عقدة نفسيه بإفساح المجال أمامها للتعبير عن نفسها تعبيرا كاملا.
إن الفنون التي يبدعها الإنسان وعلى وجه الخصوص من الدراما أو التراجيديا ، تمارس على مشاعر الإنسان أثرا كبيرا، وتعتبر هذه الظاهرة معروفة جدا منذ أرسطو  ودورها في تنقية أو تطهير الإنسان من العواطف الجارفة والانفعالات الحادة أو الأهواء الشريرة وقد سماها أرسطو ( كاتارزيس )، غير أنه لم يقدم شرحا أو تفصيلا لهذا التعبير الغريب،  وهكذا ترك أرسطو الباب مفتوحا والمجال حرا للمفسرين .‏
من الواضح أن وجهة نظر أرسطو بهذا الشأن ليست ببعيدة جدا عن وجهة نظر الأطباء النفسـيين عندما يقولون: إن الغرائز العدوانية والغرائز الجنسية تطالب بحقها، لأنها لا تستطيع أن تمنح نفسها الحياة في الحقيقة الواقعة، لذا فهي قد تحصل في مجال الفن على ترضية بريئة ومثالية، وبهذا يصبح الفن بمثابة الاشتقاق أو صمام الأمان بالنسبة للإنسان .والأدب ليس له إلا وظيفة واحدة منذ العهد الإغريقي. وكما ذكرنا سماها أرسطو "كاتارزيس" أي "التطهر". الفن هو الذى يطهرنا ويسمو بأرواحنا. والأمم التي تهتم بالفن والآداب والثقافة هي الأمم التي يصبح شعبها متحضرا في عواطفه، ومشاعره، وأفكاره".(عبد الرازق، 2012).
أعود لأؤكد  أنّ الحجر يعبُر عملية "معمودية بالماء" لكي يتحول إلى الأحسن.

18.5.2014                

المصادر:
- الاسطه، عادل.(2007). درويش في جديده "أثر الفراشة". جامعة النجاح. نابلس.
- درويش، محمود.(1992). احد عشر كوكبا.موقع"مؤسسة محمود درويش-رام الله.
- درويش، محمود.(2008). أثر الفراشة. رياض الريس للكتب والنشر. بيروت.
- درويش، محمود.(2009). لا أُريد لهذي القصيدة ان تنتهي .رياض الريس للكتب والنشر. بيروت.
- درويش، محمود. (2002). حالة حصار.ص 42. رياض الريس للكتب والنشر. بيروت.

- حمزه، حسين. (2012).معجم الموتيفات المركزية في شعر محمود درويش. الناشر: مجمع اللغة العربية، حيفا.
- طنوس، نبيل.(1992). "معمودية قاتلة"، قراءة في رواية  د. نعيم عرايدي، إصدار "بيتان" – تل أبيب، أيار 92 (بالعبرية). جريدة "الاتحاد. الجمعة 22 ايار 1992. ص. 8 , حيفا.
- طنوس، نبيل.( 1998)."عيد الغطاس"، معمودية يسوع، فعالية تربوية في: هفعالوبيديا، موسوعة الفعاليات الاجتماعية والثقافية. تل-ابيب.
- عبدالرزاق، زينب. (2012). لا «نهضة» بلا «ثقافة» الأهرام اليومي. القاهرة.
- صدقة، جان.(1989).رموز وطقوس. دراسات في الميتولوجيا القديمة. رياض الريس للكتب والنشر.لندن.
- كاباسیلاس، نقولا. (1982). الحیاة في المسیح(ص12-28). عرّبه عن الیونانیة البطریرك إلیاس الرابع (معوّض). منشورات النور.بيروت.

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.
1.د. عصام عساقلةسلامات دكتور نبيل، مقال قيّم ومهمّ، يحوي الكثير من المضامين والأفكار المثيرة للاهتمام. أقترح أن تتوسّع في الموضوع أكثر، ومن ثمّ نشره كمقال علميّ في مجلّة علميّة. عصام24/05/2014 - 04:17:57 pm
2.سمير عرطول ابو ايهابشكرا لك دكتور نبيل على هذه االمقالة الرائعة والتحليل المتكامل لمعمودية الحجر للعملاق محمود درويش . اوافق عزيزي الدكتور عصام قزل رايه . مع تحياتي وتقديري .24/05/2014 - 10:22:30 pm
3.ד״ר תאיר קיזלחברי ועמיתי להוראה ד״ר נביל טנוס, קראתי בעיון, בעונג ובהעשרה את מאמרך העיוני ובשם רבים מתלמידיך מודים לך על החוויה שסיפקת לנו. מסה זו היא פרי תולדה של חוקר דגול וענייני הכותב רבות בצורה מרשימה ופואטית על גדול המשוררים מחמוד דרויש. ישר כוח לך על העשייה החינוכית והספרותית המשתרעת על תחומים רבים ומגוונים. תמשיך לזכות אותנו מפרי עטך.. תאיר24/05/2014 - 11:16:03 pm
4.دسعيد قزلاحسنت يا صديقي على هذا التحليل العميق الذي يدل على مهنية المحلل سعة اطلاعه وحسن تعبيره26/05/2014 - 04:07:12 pm

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 1853